د.هيام عبدالقادر تكتب : دور الميتاجينوميات في الكشف عن الفيروسات النباتية وتأثيرها على المحاصيل الاستراتيجية

20 مارس، 2025 - بتوقيت 10:20 ص

أستاذ الميكروبيولوجيا الجزيئية والبيوتكنولوجى ورئيس قسم بحوث الفيروس والفيتوبلازما – بمعهد بحوث امراض النباتات –

 

 

في إحدى الحقول الواسعة، حيث تمتد المحاصيل على مد البصر، وقف المزارع حائرًا أمام ظاهرة غريبة: نباتات مصابة بأعراض غامضة، أوراق صفراء، ونمو متباطئ. رغم اتباعه لأفضل الممارسات الزراعية، إلا أن المحصول بدأ يتدهور. هذه المشكلة لم تكن فردية، بل امتدت إلى حقول أخرى، مما أثار قلق الباحثين في علم الفيروسات النباتية. ولكن كيف يمكن كشف العدو المخفي الذي يهدد هذه المحاصيل؟ هنا، تدخل الميتاجينوميات كمفتاح لحل اللغز، إذ تتيح هذه التقنية فك شفرة الفيروسات غير المعروفة، وتقدم للعالم رؤية دقيقة لطبيعة التهديدات التي تواجه الزراعة .(Nizamani et al., 2023).

الميتاجينوميات: نافذة إلى العالم الخفي للفيروسات

الميتاجينوميات ليست مجرد تقنية تحليلية، بل أشبه بعدسة سحرية تُظهر ما كان غير مرئي. على مدار سنوات، اعتمد العلماء على طرق تقليدية لعزل وتشخيص الفيروسات، لكن العديد منها ظل مجهولًا. اليوم، بفضل تقنيات التسلسل الجيني من الجيل التالي (NGS)، أصبح بالإمكان تحليل مجتمعات فيروسية كاملة دون الحاجة إلى عزلها معمليا .(Roossinck, 2015).

رحلة الكشف عن الفيروسات عبر الميتاجينوميات

في عالم الميتاجينوميات، تبدأ الرحلة بجمع العينات. يتنقل الباحثون بين الحقول، يجمعون الأوراق المصابة، يسجلون ملاحظاتهم، ويرسلون العينات إلى المختبرات المتخصصة.

استخلاص الأحماض النووية: تبدأ العملية بعزل RNA أو DNA باستخدام تقنيات مثل TRIzol، حيث تُستخرج المادة الوراثية بدقة لضمان الحصول على أقصى قدر من المعلومات الجينية (Nizamani et al., 2023).

تحليل التسلسلات الجينية: باستخدام برامج متقدمة مثل QIIME وMetaVir، يتم تحديد الفيروسات وتصنيفها بدقة، تمامًا كما يحاول المحققون تجميع الأدلة لكشف الجاني (Roossinck, 2015).

التعرف على الفيروسات الخفية: في بعض الأحيان، تظهر بيانات غير متوقعة-فيروسات جديدة لم يتم تسجيلها من قبل. هذه اللحظة تعد الأكثر إثارة، حيث يجد العلماء أنفسهم أمام اكتشاف قد يغير مفاهيم مكافحة الأمراض الفيروسية تمامًا (Wu et al., 2010).

الفيروسات التي كشفتها الميتاجينوميات: وجوه جديدة في عالم الزراعة

في أحد المشاريع البحثية الأخيرة، تم اكتشاف فيروسات جديدة من عائلة Geminiviridae ، والتي لم يكن أحد يعلم بوجودها، لكنها كانت تهاجم المحاصيل بصمت، وتقلل إنتاجيتها عامًا بعد عام (Wu et al., 2010). هذه الفيروسات، رغم أنها كانت مخفية عن الأنظار، إلا أنها أثرت بشدة على الأمن الغذائي في العديد من الدول النامية، مما دفع الحكومات والمراكز البحثية إلى التركيز على تطوير استراتيجيات جديدة لمكافحتها.

التداعيات الاقتصادية وتأثيرها على المزارعين

تخيل أن تكون مزارعًا يعتمد على محصول الطماطم لدخله السنوي، ثم فجأة تصاب المحاصيل بفيروس غير معروف، مثل Tomato Yellow Leaf Curl Virus (TYLCV)، مما يؤدي إلى خسائر تصل إلى 80% من الإنتاج (Nizamani  et al., 2023).  هنا، لا تتوقف المشكلة عند الخسائر المادية فقط، بل تمتد إلى ارتفاع أسعار الغذاء وتأثيرها على المستهلكين. كما أن نقص المحاصيل يؤدي إلى ضغوط اقتصادية على المزارعين، حيث يحتاجون إلى المزيد من الاستثمارات في المبيدات الحيوية والأساليب الوقائية المتقدمة.

نحو مستقبل أكثر مقاومة: كيف يمكن للميتاجينوميات حماية الزراعة؟

لحسن الحظ، لا تتوقف القصة عند التشخيص فقط، بل تمتد إلى البحث عن الحلول:

استخدام تقنيات تعديل الجينوم مثل CRISPR-Cas9  لتعطيل الفيروسات داخل النباتات، مما يسهم في تطوير نباتات مقاومة للأمراض الفيروسية دون الحاجة إلى استخدام مبيدات كيميائية مكلفة.

تطوير أصناف نباتية مقاومة من خلال تحليل الجينوم النباتي والتدخل الجيني لتعزيز قدرات المحاصيل ضد الفيروسات، وهو ما يسهم في تقليل الحاجة إلى المواد الكيميائية وتقليل الأثر البيئي.

إنشاء قواعد بيانات عالمية للفيروسات، بحيث يمكن التعرف على أي تهديد جديد بسرعة واتخاذ الإجراءات الوقائية مبكرًا (Prabha et al., 2013). هذه القواعد تساعد الباحثين على مقارنة الفيروسات المكتشفة مع غيرها على المستوى الجيني، مما يمكنهم من توقع سلوك الفيروسات واتخاذ قرارات مستنيرة بشأن التدخلات اللازمة.

التحديات والتوجهات المستقبلية

على الرغم من الإمكانيات الكبيرة للميتاجينوميات، فإنها لا تخلو من التحديات:

تكلفة التقنيات الحديثة: لا تزال تكلفة التسلسل الجيني مرتفعة، مما يحد من استخدامها على نطاق واسع، خاصة في الدول النامية.

الحاجة إلى مهارات تحليلية متقدمة: تتطلب الميتاجينوميات معرفة معمقة في التحليل البايولوجي المعلوماتي، مما يستلزم تدريب الباحثين والمزارعين على هذه التقنيات.

التكيف مع التغيرات البيئية: مع استمرار تغير المناخ، تتطور الفيروسات بسرعة، مما يستدعي مواكبة هذه التغيرات بوسائل تحليلية أسرع وأكثر دقة.