د. ناهد عبدالمقتدر الوحش تكتب : التحول الأستراتيجي نحو أمن غذائي مستدام.. الخطة التنفيذية لنظم الغذاء والتغذية في مصر 2025–2030

10 يوليو، 2025 - بتوقيت 9:28 ص

باحث أول بقسم بحوث الألبان – معهد بحوث تكنولوجيا الأغذية

 

 

 

تواجه مصر في الوقت الراهن تحديات متزايدة في قطاعي الغذاء والتغذية تتداخل فيها أبعاد سكانية واقتصادية وبيئية وصحية. إذ يؤدي النمو السكاني السريع وتناقص الموارد الطبيعية خاصة المياه والأراضي الزراعية إلى ضغوط كبيرة على منظومة الأمن الغذائي . كما ساهمت الأزمات العالمية مثل جائحة كوفيد 19 وأزمة سلاسل الإمداد العالمية والحروب في كشف مواطن الضعف في نظم إنتاج وتوزيع الغذاء وأظهرت الحاجة إلى إعادة هيكلة سياسات الغذاء والتغذية لتصبح أكثر مرونة وعدالة وكفاءة واستدامة .

استجابة لهذه التحديات أطلقت الحكومة المصرية في 1 يوليو 2025 “الخطة التنفيذية الوطنية لنظم الغذاء والتغذية 2025–2030” كخارطة طريق متعددة القطاعات تهدف إلى بناء نظام غذائي ذكي مناخيا عادل اجتماعيا ومستدام اقتصاديا. ترتكز الخطة على عدة محاوربما يتماشى مع رؤية مصر 2030 والاستراتيجية الوطنية للأمن الغذائي والتغذية.

وتهدف الخطة إلى تحقيق تحولات هيكلية في النظم الغذائية عبر تحسين مؤشرات التغذية وزيادة الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الإستراتيجية وتقليل الفاقد وتعزيز كفاءة الإنتاج الزراعي في ضوء الاعتبارات البيئية. كما توفر الخطة فرصا للاستثمار في مجالات الطاقة النظيفة وتقنيات الري وسلاسل الإمداد الحديثة.

في هذا السياق يستعرض المقال ملامح “الخطة التنفيذية الوطنية لنظم الغذاء والتغذية 2025–2030” وأهدافها الاستراتيجية ومحاورها الهيكلية وآليات تنفيذها إضافة إلى التحديات التي قد تواجهها والفرص المتاحة لتعظيم أثرها التنموي.

الإطار المؤسسي والحوكمة:

يقود تنفيذ الخطة اللجنة الوطنية لنظم الغذاء والتغذية برئاسة وزير الصحة والسكان ونائب رئيس مجلس الوزراء وعضوية احدى عشر وزارة وجهة وطنية بدعم من الشركاء الدوليين ومؤسسات الأمم المتحدة ذات الصلة. ويستند التنفيذ إلى نظام متابعة وتقييم قائم على مؤشرات أداء رئيسية (KPIs) وتخصيص مالي موجه بالنتائج بما يعزز فعالية السياسات ويضمن المساءلة والشفافية.

الأهداف الاستراتيجية

• كسر حلقة سوء التغذية :تسعى الخطة إلى خفض معدلات الأنيميا والتقزم لدى الأطفال والنساء اعتمادا على تحصين الخبز بالحديد والفوليك والملح باليود وقد أطلقت برنامجا قوميا لتدعيم رغيف الخبز البلدي المدعم وتحسين برامج التغذية المدرسية والتوسع في مبادرات الألف يوم الأولى.

• خفض معدلات السمنة والأمراض غير المعدية: أُدرِجت الخطة حزمة من الإجراءات الوقائية لاحتواء التصاعد في معدلات السمنة والأمراض غير المعدية المرتبطة بها وتشمل هذه الإجراءات فرض ضرائب على المشروبات عالية المحتوى من السكر كأداة لتقليل الاستهلاك غير الصحي إلى جانب التوسع في برنامج الفحص الصحي المدرسي الذي طال ثلاثة ملايين تلميذ عام 2023 للكشف المبكر عن حالات الأنيميا والسمنة والتقزم بما يقلل عبء المرض على نظام الرعاية الصحية ويخفض معدلات الإصابة .

• تعزيز الاكتفاء من الحبوب الإستراتيجية: تضع الحكومة هدفا لزيادة الاعتماد على الإنتاج المحلي من القمح بوصفه المحصول الأكثر حساسية للأمن الغذائي الوطني. مستندة إلى استصلاح موسع في مشروع «الدلتا الجديدة» وتعميم أصناف قمح عالية الإنتاجية تتحمل الحرارة والملوحة. كما تعتمد الخطة على تحسين كفاءة استخدام المياه من خلال تطبيق تقنيات الري الحديث بما يعزز من استدامة الإنتاج ويقلل من الفاقد في الموارد.

• خفض الفاقد والهدر الغذائي بصورة ملموسة: تتجه الخطة إلى تقليص الفاقد بعد الحصاد والهدر في مراحل النقل والاستهلاك إلى نحو النصف مستفيدة من سلاسل تبريد تعمل بالطاقة الشمسية وبنوك طعام على مستوى المحافظات وتشريعات ملزِمة للقطاع الخاص لمنح حوافز على تقليل الهدر.

• إدماج المناخ في سياسات الزراعة والاستهلاك : تلزم الخطة المشروعات الزراعية الجديدة بتقييم الأثرالكربوني والمائي وتربط حوافز الدعم باعتماد ممارسات الزراعة الذكية مناخيا بما يتسق مع استراتيجية مصر للمناخ 2050.

المحاور الرئيسية للخطة :

الحوكمة الفعالة

تركزعلى تطوير سياسات متكاملة والتحول الرقمي لقواعد البيانات ووضع مؤشرات أداء تربط الميزانية بالنتائج. ويشمل ذلك إطلاق «المرصد الوطني للتغذية» الذي يدمِج بيانات الصحة والزراعة والتموين.

نظم الحماية الاجتماعية والعدالة الغذائية

تحديث قاعدة بيانات بطاقات التموين وتوحد في «كارت موحد» يضمن وصول الدعم للفئات الأولى بالرعاية مع إضافة سلة غذاء صحية مدعومة تحتوي على منتجات ألبان مدعمة بفيتامين د والكالسيوم.

الاستثمار في الطاقة النظيفة

تخصيص حوافز ضريبية لمشروعات الطاقة الشمسية في سلاسل التبريد والتصنيع الغذائي وخفض كثافة الطاقة في مصانع الأغذية بنسبة 20 % بحلول 2030 .

تعزيز البحث الزراعي والابتكار

يشمل دعم مركز البحوث الزراعية لتطوير أصناف مقاومة للملوحة والجفاف وربط الابتكار بالمزارع التجريبية في مشروع «الدلتا الجديدة»‏. كما يفعل التعاون مع الجامعات لإدخال الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بالآفات.

تدعيم الأغذية بالمغذيات الدقيقة

• تدعيم الخبز بالحديد والفوليك والملح باليود.

• إدراج مكملات حمض الفوليك للنساء الحوامل ضمن برنامج «100 مليون صحة»‏.

من المتوقع أن يقلل ذلك الأنيميا بنحو 50 % طبقًا لتقديرات منظمة الصحة العالمية.

كفاءة استخدام الموارد (المياه والطاقة)

• تعميم نظم الري بالرش والتنقيط في 2 مليون فدان إضافية.

• إنشاء 3 محطات لمعالجة مياه الصرف الزراعي لإعادة استخدامها في الزراعة.

دمج السياسات المناخية مع التغذية والأمن الغذائي

تلزم الخطة جميع المشروعات الزراعية بتقييم الأثرالمناخي وتعزيز الزراعة منخفضة الانبعاثات وربط دعم الأسمدة بتبني ممارسات ذكية مناخيا‏. يتماشى ذلك مع استراتيجية مصر للمناخ 2050‏.

آليات التنفيذ والمتابعة

تقسم الخطة إلى ثلاث مراحل زمنية متتابعة تغطّي الفترة حتى عام 2030 وتتضمن أكثر من ستين مشروعا وطنيا. وقروض ميسّرة من شركاء التنمية واستثمارات القطاع الخاص المدعومة بحوافز ضريبية خضراء. تنشَر البيانات الدورية على بوابة إلكترونية مفتوحة تمكن الباحثين والمجتمع المدني من مراقبة التقدم وتقديم التغذية الراجعة تعزز المشاركة المجتمعية.

1. خارطة طريق تفصيلية: تتضمن 63 مشروعًا وطنيا موزعا على ثلاث مراحل (2025 2026/ 2027 2028/ 2029 2030).

2. مؤشرات الأداء (KPIs): مثل معدل الأنيميا ومؤشر تنوع النظام الغذائي وفاقد القمح بعد الحصاد.

3. نظام مراجعة سنوي: يصدر تقرير تقدم بكل محور ويتم إجراء مراجعة منتصف المدة في 2027.

4. تمويل مرن: مزيج من الموازنة العامة قروض ميسّرة من البنك الدولي وشراكات مع القطاع الخاص (نظام الحوافز الخضراء).

5. مساءلة مجتمعية: نشر بيانات مؤشرات التغذية على بوابة إلكترونية تفاعلية يشارك فيها المجتمع المدني والجامعات.

التحديات والفرص

• الفجوة المائية: تعاني مصر من فجوة مائية ما يتطلب تعظيم إعادة استخدام المياه واستيراد محاصيل أقل استهلاكا للمياه

• تقلب أسعار الحبوب العالمية: الاعتماد على الأسواق العالمية يجعل الميزانية عرضة للتقلبات غير أن تنويع الموردين وتوسيع المخزون الإستراتيجي يقلص المخاطر.

• تأثير تغير المناخ وتملح الأراضي: ارتفاع الحرارة وزيادة ملوحة التربة يهددان الإنتاج الزراعي إلا أن نشر الأصناف المقاومة والتوسع في التأمين الزراعي وتبنّي الزراعة الذكية مناخيا توفر مخرجات قابلة للتطبيق.

• التنسيق المؤسسي: رغم إنشاء اللجنة الوطنية لنظم الغذاء والتغذية ما تزال بعض المحافظات تعاني ازدواجية في البرامج ويعَد إطلاق منصة بيانات موحدة وربط التمويل بالأداء خطوة حاسمة لمعالجة هذا القصور.

الخلاصة والتوصيات

1. تسريع الرقمنة في نظم المتابعة والتقييم لربط الإنفاق العام بالمردود الغذائي والصحي.

2. دعم الابتكار الزراعي عبر شراكات بين الجامعات وحاضنات الأعمال مع تمويل مخصص للأبحاث المناخية التطبيقية.

3. توسيع شبكة الأمان الغذائي المشروط بالتغذية في القرى الأكثرضعفا مع مراقبة أثر التحويلات النقدية على السلوك الغذائي.

4. تعزيز الحوافز الخضراء لجذب استثمارات شمسية في مصانع الأغذية وسلاسل التبريد ما يقلل كلفة الطاقة والانبعاثات

5. تقوية التكامل الإقليمي في تجارة الحبوب والأسمدة داخل تجمعات مثل الكوميسا لتقليل تقلب أسعار السلع الأساسية.

 

ختاما : يمثل إطلاق الخطة التنفيذية لنظم الغذاء والتغذية في مصر للفترة 2025–2030 خطوة استراتيجية فارقة في مسار التنمية المستدامة حيث تنبع أهميتها من قدرتها على معالجة التحديات الهيكلية التي تعاني منها المنظومة الغذائية من منظور متكامل يشمل الصحة العامة والأمن الغذائي وكفاءة الموارد والتكيف مع تغير المناخ. وعلى عكس الخطط التقليدية التي كانت تقتصر على الدعم السلعي أو تدخلات جزئية فإن هذه الخطة تتبنى نموذجا شاملا يربط بين البيانات الرقمية والحوكمة المؤسسية والتمويل المبتكر وتدخلات مبنية على الأدلة.

كما أن نجاح الخطة لا يتوقف فقط على وضوح أهدافها أو اتساقها مع الرؤى الدولية بل يعتمد بالأساس على قدرتها على تفعيل التنسيق بين القطاعات ومرونة التنفيذ واستجابة الأجهزة الحكومية للتغذية الراجعة من المجتمع والبحث العلمي.

إن مصر أمام فرصة حقيقية لإعادة تشكيل منظومتها الغذائية بما يعزز سيادتها الغذائية ويصون صحة مواطنيها ويحمي مواردها البيئية للأجيال القادمة. وتحقيق ذلك يتطلب إرادة سياسية مستدامة وشراكات قوية ونهجا علميا ودقيقا في التنفيذ والتقييم ليكون هذا العقد عقد التحول الغذائي الشامل والعادل في مصر.