د.فوزي ابودنيا يكتب : تقنية الأغشية الحيوية لمواجهة التغير المناخي وتحقيق الأمن الغذائي

23 ديسمبر، 2025 - بتوقيت 3:11 م

د. فوزى محمد ابودنيا – مدير معهد بحوث الإنتاج الحيوانى الأسبق

 

 

في ظل التحديات المناخية المتسارعة التي تواجه حرفة الزراعة، من ندرة المياه إلى الارتفاع الحاد في درجات الحرارة، يبرز ابتكار زراعي جديد يَعِد بتغيير وجه الزراعة التقليدية وهو “الأغشية القابلة للتحلل الحيوي”(Biodegradable Films). هذه التقنية، التي بدأت تأخذ حيزاً كبيراً في أبحاث مراكز دولية مثل معهد بحوث الأرز الدولي (IRRI)، حيث لا تقتصر فوائدها على زيادة الإنتاج فحسب، بل تمتد لتكون حلاً جذرياً للمشكلات البيئية الناتجة عن الممارسات الزراعية الخاطئة.

من المعلوم ان زراعة الأرز التقليدية تعتمد تاريخياً على نظام “الغمر الدائم”، وهو نظام يستهلك كميات هائلة من المياه العذبة ويحول الحقول إلى مصانع طبيعية لغاز الميثان، الذي يفوق غاز ثاني أكسيد الكربون بمرات عديدة في قدرته على إحداث الاحتباس الحراري. وهنا تتدخل الأغشية الحيوية كبديل ذكي؛ فهي عبارة عن رقائق رقيقة مصنعة من مواد نباتية بالكامل مثل الذرة وقصب السكر، حيث تُفرش على سطح التربة لتعمل كدرع واقٍ يحافظ على الرطوبة ويمنع تبخر المياه بنسبة تصل إلى 60%. إن الأهمية الحقيقية لهذه الأغشية تكمن في سهولة التخلص منها نتيجة تحللها، فهي ليست بلاستيكاً ملوثاً للبيئة، بل هي مواد “صديقة للتربة” تتحلل ذاتياً خلال 100 يوم بفعل الميكروبات، وتتحول في النهاية إلى مادة عضوية تزيد من خصوبة الأرض. هذا التحول من التلوث بالبلاستيك التقليدي (الذي يترك ميكروبلاستيك ضار) إلى التسميد الذاتي يمثل حجر الزاوية في الزراعة المستدامة الحديثة.

آفاق جديدة لمحاصيل متنوعة

بالرغم من تركيز الأبحاث الحالية على استخدام تلك الأغشية فى زراعة الأرز، إلا أن إمكانات هذه الأغشية تمتد لتشمل مئات المحاصيل الأخرى، خاصة تلك التي تُزرع في المناطق الجافة وشبه الجافة ومن هذه المحاصيل على سبيل المثال لا الحصر:

الخضروات المكشوفة

لقد أثبتت التجارب نجاحاً باهراً في زراعة الطماطم، الفلفل، والخيار باستخدام هذه الأغشية، حيث ساهمت في منع نمو الأعشاب الضارة دون الحاجة لمبيدات كيميائية، مما ينتج ثماراً عضوية أكثر أماناً.

المحاصيل النقدية مثل الفراولة

فى الواقع تعتبر الفراولة من أكثر المحاصيل حساسية لنظافة التربة والرطوبة؛ وتوفر هذه الأغشية بيئة معقمة طبيعياً تمنع تعفن الثمار الملامسة للأرض.

الأشجار المثمرة الحديثة

حيث يمكن استخدام تلك الأغشية الحيوية في حماية جذور الشتلات الصغيرة في البساتين الجديدة، مما يضمن نسبة نجاح عالية للشتل في الأراضي المستصلحة حديثاً.

محاصيل الذرة والقطن

في المناطق التي تعاني من تذبذب الأمطار عند زراعة الذرة، تعمل الأغشية على “حبس” رطوبة الأمطار الأولى داخل التربة، مما يضمن استمرار نمو المحصول حتى في فترات الانقطاع الطويلة للمطر. وفى المناطق الحارة يمكن أن تقلل من المياه المستخدمة فى رى نبات مثل القطن.

إقتصاديات إستخدام الأغشية الحيوية

قد يتبادر للأذهان أن هذه التقنية باهظة الثمن، لكن الأرقام الخاصة بتكاليف انتاج هذه الاغشية تشير إلى عكس ذلك. على سبيل المثال فان تكلفة تتراوح تغطية الهكتار تتراوح بين 100 إلى 120 دولاراً ، فيما يحصل المزارع على زيادة في المحصول تصل إلى 25% من الإنتاج بالشكل التقليدى، مع توفير ضخم في فواتير الكهرباء (المستخدمة لضخ المياه) وتكاليف العمالة التي كانت تُهدر في التخلص من الأعشاب الضارة. وبمجرد توطين صناعة هذه الأغشية محلياً في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإنه من المتوقع أن تنخفض التكاليف بنسبة إضافية تصل إلى 30%.

تحديات الطريق نحو المستقبل

على الرغم من هذه الإيجابيات، لا يزال هناك “فجوة معرفية” في منطقتنا العربية وجنوب آسيا. يتطلب الأمر جهوداً مشتركة بين الحكومات والشركات الخاصة لإنشاء مصانع محلية تعتمد على مخلفات المحاصيل المحلية لإنتاج هذه الأغشية. كما يجب تكثيف الدورات الإرشادية للمزارعين لتعريفهم بكيفية التعامل مع هذه التقنية الجديدة، وتوفير آلات بذر وتغطية ميكانيكية تتناسب مع صغار المزارعين.

حقيقة الأمر إن الأغشية القابلة للتحلل الحيوي ليست مجرد “منتج زراعي”، بل هي فلسفة جديدة تنقل الزراعة من مرحلة استنزاف الموارد إلى مرحلة التعايش مع الطبيعة. إنها الحل الذي يضمن بقاء أراضينا خضراء ومنتجة في وجه عواصف التغير المناخي التي لم تعد تهديداً مستقبلياً، بل واقعاً نعيشه اليوم.