دعماد عبدالعزيز سالم يكتب: صناعة عيش الغراب بين الواقع و المأمول
24 أكتوبر، 2022 - بتوقيت 4:03 م
رئيس قسم الزراعة العضوية بمعمل المناخ الزراعي – مركز البحوث الزراعية
عيش الغراب أو المشروم هو من اقدم الكائنات الدقيقة على وجه الارض، فوجوده سبق وجود الانسان و الحيوان بل و النبات، و هو عباره عن فطر يستطيع تكوين جسم ثمري تتغذى عليه كثير من الكائنات منها الإنسان، وقد عرفه الانسان منذ قديم الزمان واعطاه وضعاً مميزا بين الأصناف الغذائية الأخرى حيث ادراك فوائده الصحية الكثيرة والتي قلما تجتمع في منتج غذائي واحد، لذلك نجده مذكورا في معظم الحضارات القديمة، فمثلا وصفه الصينيون القدماء بأنه إكسير الحياه، و هو ينتج لديهم منذ ثلاثة آلاف عام، واعتاد المحاربون اليونانيون القدامى التغذي عليه قبل المعارك حيث عرف عندهم بغذاء المحاربين. أما اجدادنا الفراعنة فقد سموه غذاء الآلهة وقدسوه ورسموه على جدران معابدهم، كما اعتقدوا أن التغذي على انواع معينه من المشروم يمكنه ان يدخل الانسان الى عالم جديد من المعرفة، و اخذ اهمية كبرى لديهم فقصروا استهلاكه على الفرعون والكهنة فقط. الا ان تاريخ المشروم في مصر بعد عهد الفراعنة، غير معروف، يبدوا ان المناخ في مصر في عهد الفراعنة كان مختلفا عنه في عصرنا الحديث حيث كان يساعد على ازدهار ونمو الاجسام الثمريه الخاصة بالمشروم التي تحتاج الى برودة و رطوبة عالية، و يبدو أنه قد حدث تغيراً كبيراً في المناخ المصري منذ عهد الفراعنة الى الآن. فقد اصبح مناخنا كما هو معرف مناخاً صحراوياً يميل الى الجاف في اغلب فترات السنه، و هذا ما أدى الى ما يشبه اختفاء عيش الغراب من مصر، حيث لم يتعرف المصريون في العصر الحديث عليه إلا مع الاحتلال الانجليزي، حيث كان الانجليزي بشكل خاص والأوروبيين بشكل عام يزرعون المشروم منذ مئات السنين نظرا لطبيعة الظروف المناخية عندهم، فمثلا ينتج عيش الغراب الاوروبي (الأجاريكس) في فرنسا بشكل صناعي منذ اكثر من 500 عام و لذلك يسمى بالفطر الباريسي. و قد قام الانجليز بزراعته في مصر خاصة مع ظهور التكنولوجيا الحديثة التي تتحكم في العوامل المناخية المختلفة مثل اجهزه التبريد والوسائل المختلفة لرفع الرطوبة الجوية وكذلك وسائل التهوية اللازمة لخفض معدلات ثاني اكسيد الكربون، و كان هذا بداية تعرف المصريين عليه.
ظلت زراعه المشروم منذ ذلك الحين محاولات فرديه نادرة، و لم تدخل في النطاق الرسمي بوزارة الزراعة حتى أنشئت مزرعة عيش الغراب بالدقي في عام 1986 بمشروع ممول من منظمه الفاو يرأسه الأستاذ الدكتور أيمن فريد ابو حديد وزير الزراعة الأسبق، هذه المزرعة التي تضم معملاً لإنتاج اللقاح الفطري “التقاوي” و صوبة لإنتاج الاجسام الثمريه اصبحت وحدة تتبع المعمل المركزي للمناخ الزراعي بمركز البحوث الزراعية منذ انشائه في عام 1996، ومنذ ذلك الحين تقدم هذه الوحدة خدماتها للمواطنين سواء بإمدادهم بما يلزمهم من تقاوي وثمار عيش الغراب المحاري، أو من خلال التدريب على زراعه النوعين المشهورين بمصر النوع المحاري والنوع الأوروبي. و في نفس الأثناء تقريباً ادخل نشاط عيش الغراب الى معهد تكنولوجيا الاغذية بمركز البحوث الزراعية.
تنقلنا هذه المقدمة للكلام عن واقع عيش الغراب بمصر الآن و بعد كل هذه السنوات، و مقارنته بباقي بلدان العالم، فعلى الرغم من أن انتاج المشروم في العالم قد تقدم تقدماً كبيراً واصبح صناعة ضخمة تدر دخلاً قومياً مرتفعاً يصل إلى مليارات الدولارات إلا أن الوضع في مصر لا يزال متعثراً. ربما يرجع ذلك الى ذوق المستهلك المصري الذي ينظر بريبة الى كل ما هو جديد، أو الى عدم النجاح في الترويج الجيد من الناحية الإعلامية لهذه السلعة الغذائية الهامة. يزرع العالم الآن اكثر من 200 نوع مختلف منها ما يزرع بغرض الأكل أو ما يزرع للأغراض الطبية، من هذه الأنواع 35 نوعاً تزرع بشكل صناعي منها 10 أنواع تمثل صناعه ضخمه لكثير من البلدان. هذا وقد وصلت القيمة السوقية لعيش الغراب الطازج في الأسواق العالمية الى 38 بليون دولار امريكي في عام 2018، 35% من هذه القيمة تعود الى دولة الصين وحدها حيث انها المنتج الأكبر في العالم لعديد من الانواع المشهورة من عيش الغراب مثل النوع الأوروبي (Button mushroom) و هو النوع الاشهر و الذي يحتل المرتبة الأولى في العالم من حيث الانتاجية، و النوع المحاري (Oyster mushroom) بأنواعه المختلفة و الذي يحتل المرتبة الثانية، و انواع أخرى مثل الشيتاكي والجانوديرما و الفلاميولينا و الاريكيولاريا و الفورفوريلا و التيرميلا و الاجروسيب و غيرها. بينما تنتج اوروبا ١٧% من هذا القيمة تليها الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة 5.9 %
ولكن في الحقيقة و للأسف الشديد لا توجد احصائيات رسمية منشورة يمكن الإعتماد عليها للتعرف على وضع انتاج المشروم الحالي في مصر، كما أن موقع FAOSTAT التابع لمنظمه الأغذية والزراعة لم يسجل أي أرقام احصائية عن حجم انتاج المشروم او المساحة المنزرعة في مصر. إلا أن احدى الدراسات المصرية (٢) ذكرت في بيانات غير منشورة نسبتها الى مركز الاحصاء والمعلومات بقطاع المشروعات الصغيرة بوزارة الصناعة والتجارة الخارجية، ان عدد المزارع العاملة في مجال المشروم بمصر حوالي 667 مزرعة تنتشر في محافظات الوجه البحري منها 528 مزرعة صغيره و 108 مزرعة متوسطة و 31 مزرعة كبيره، كما ذكرت أن عدد المزارع المنتجة للنوع المحاري 421 مزرعة، وعدد المزارع المنتجة للنوع الاوروبي 240 مزرعة، كما ان هناك 5 مزارع تنتج النوع الشيتاكي. وقد توقعت هذه الدراسة ايضا ان الانتاج الكلى في مصر من المشروم في عام 2019 حوالي 4350 طن. و هو رقم إذا افترضنا أنه يحاكي الواقع فعلا، فعند مقارنته مع الإنتاج العالمي لنفس العام و المذكور بموقع FAOSTAT (١١.٩ مليون طن) فسنجد أن نسبه ما تنتجه مصر لا يتعدى 0.037 % من الانتاج العالمي، وهي تعد نسبه ضئيلة جدا اذا ما قورنت بدول أخرى كثيرة أقل من مصر في امكانياتها و الحجم الكبير لسكانها، مع ملاحظة ان كمية الانتاج المذكورة تعني ان نصيب الفرد السنوي من المشروم حوالي 4.35 جم و هي نسبة لا تتسق مع الأهمية الكبيرة للمشروم كغذاء صحي هام. كما اننا إذا سلمنا بدقة ما ذكرته هذه الدراسة، فانه يبدو ان هذه المزارع تعتمد على تصدير أغلب انتاجها، حيث يؤكد الواقع شح المعروض من هذا المنتج في الاسواق المصرية.
يحتاج نشر ثقافة عيش الغراب بين جموع الشعب المصري الى تظافر الجهود من المختصين و المنتجين بالإضافة الى الدولة، و قد حرصنا بالمعمل المركزي للمناخ وإيمانا منا بأهمية عيش الغراب للشعب المصري كغذاء صحي و كاستثمار هام على تنظيم ورش العمل التدريبية الدورية لنشر الوعي بين الشباب و رواد الأعمال لدفعهم للاستثمار في هذا المجال على أمل الوصول الى المستوى اللائق من التطور في هذه الصناعة الواعدة حيث تحتاج مصر لمضاعفة حجم الإنتاج على الاقل عشر مرات و ليصبح المشروم بأنواعه المختلفة جزء لا يتجزأ من النظام الغذائي المصري اليومي، و هذا ما يليق بمصر صاحبه التاريخ والحضارة و الرائدة و في كثير من المجلات، حفظ الله مصر و متع شعبها العظيم بالرخاء و التقدم و دوام العافية.