د. رشا عبدالعال ابراهيم تكتب : الألبان ومنتجاتها كأهم الصناعات الغذائية المستهدفة في التوطين في مصر

13 يوليو، 2025 - بتوقيت 9:38 ص
باحث، قسم بحوث تكنولوجيا تصنيع الألبان، معهد بحوث تكنولوجيا الأغذية، مركز البحوث الزراعية
تختلف طبيعة الأطعمة وكيفية استهلاكها وتوقيتها اختلافًا جذريًا حول العالم، كما تختلف عادات الاستهلاك اختلافًا جذريًا بين الشعوب. ويتزايد التوجه العالمي نحو توطين الصناعات بعد تعرض سلاسل الإنتاج إلى اضطرابات شديدة في أعقاب أزمة انتشار وباء كورونا (كوفيد١٩)، ويعد توطين الغذاء إحدى الركائز الأساسية لتحقيق الأمن الغذائي وتعزيز الاكتفاء الذاتي في الدول، خاصة في ظل التحديات العالمية مثل التقلبات الاقتصادية، والتغيرات المناخية. يهدف التوطين الغذائي إلى تعزيز الإنتاج المحلي للأغذية، وتقليل الاعتماد على الاستيراد، ودعم المزارعين والصناعات الغذائية الوطنية، مما يسهم في تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة. كما يعزز توطين الغذاء فرص العمل للمواطنين، ويدعم الابتكار في تقنيات الزراعة والتصنيع الغذائي، مما يضمن توفير منتجات غذائية ذات جودة عالية وبأسعار مناسبة. ومن خلال الاستثمار في هذا المجال، يمكن للدول بناء منظومة غذائية قوية ومستدامة تلبي احتياجات الأجيال الحالية والمستقبلية. تُعدّ صناعة الألبان من الصناعات الرئيسية في مصر، حيث تحتل مكانةً بارزةً في قطاع الأغذية. وتلعب صناعة الألبان في مصر دورًا محوريًا في قطاعها الزراعي، حيث تُسهم إلى حد بعيد في الاقتصاد وتلبية الاحتياجات الغذائية لسكانها. ويشكّل إنتاج ما يقارب ثلث إجمالي الدخل الزراعي. وذلك باعتباره مكون غذائياً هام وضرورياً لجميع المراحل العمرية، ويُعد تطوير قطاع الألبان، وخاصة إنتاج الحليب الخام، أمرًا بالغ الأهمية للاقتصاد الريفي وسبل عيش المزارعين ومنتجي الألبان على النطاق الصغير والمتناهي الصغر. وفي العقود الثلاثة الماضية، زاد إنتاج الحليب العالمي بأكثر من 77%، من 524 مليون طن في عام 1992 إلى 930 مليون طن في عام 2022 (منظمة الأغذية والزراعة). وبلغ عدد الثروة الحيوانية (أبقار، جاموس، أغنام، ماعز، إبل) 8.3 مليون رأس عام 2022. وفي عام 2023 بلغ إجمالي أعداد الجاموس 4.7 مليون رأس وعدد الأبقار 3.1 مليون رأس، جاءت بعد ذلك أعداد الأغنام بحوالي 2.0 مليون رأس. ويمثل حليب الجاموس والأبقار44.1 – 53.73% من إنتاج الحليب على التوالي. وتشكل المجترات الصغيرة والإبل مورداً لبنياً هاماً في المناطق الصحراوية. تُنتج الألبان في مصر من خلال قطاعين هما القطاع التقليدي والقطاع المتخصص فأما الأول ينتج حوالي 75٪ من الانتاج الكلي للبن، بينما الثاني ينتج حوالي 25٪ من الناتج المحلي. لا يلبي الإنتاج المحلي سوى 72% من الطلب في مصر. ولسد الفجوة بين العرض والطلب على الحليب عالي الجودة، يميل مصنعو الألبان إلى الاعتماد على استيراد الحليب المجفف ومنتجات الألبان الأخرى. يُذكر أن نصيب الفرد من استهلاك الألبان في مصر يُقدر بحوالي ٥١ كيلوجرامًا سنويًا، وهو أقل من المتوسط العالمي الذي يبلغ حوالي 100 كيلوجرام سنويًا، وتُظهر هذه الأرقام التحديات التي تواجه قطاع الألبان في مصر. في أكتوبر 2024، أُعْلِن عن خارطة طريق رسمية للتنمية المستدامة لإنتاج الألبان في مصر حتى عام 2030، لتلبية الطلب المتزايد وتقليل الاعتماد على الواردات.
العوامل التي تحدد كفاءة قطاع إنتاج الحليب الخام في مصر
ممارسات إنتاج الحليب، الموسمية في إنتاج الحليب واستهلاكه، وكفاءة الهياكل التنظيمية في مجتمع المزارعين، توافر الموارد المالية والوصول إليها، سلوكيات الوسطاء، والبنية التحتية للإنتاج والنقل والتداول والتوزيع، آليات تثبيت الأسعار السائدة ودور القطاع الخاص والجهات الحكومية وغير الحكومية. وتتم عادة عملية جمع الحليب وتبريده ونقله من خلال سلسلة طويلة من الوسطاء، وهم جامعو الحليب، وتجار الجملة (الوسطاء)، ومراكز تجميع الحليب.
– تتمركز معظم مصانع الألبان البلدية في المناطق الريفية في محافظات الدقهلية، الفيوم، دمياط، بالإضافة إلى محافظتي المنوفية والغربية، في حين تقع بقية مصانع الألبان البلدية في محافظات الشرقية والقاهرة والجيزة وكفر الشيخ. ومن أبرز المشاكل التي تواجهها مصانع الألبان الصغيرة فيما يتعلق بالمبيعات والتوزيع، تحصيل المدفوعات من منافذ البيع وتجار التجزئة، وعدم كفاية وسائل النقل، وسوء حالة الطرق. وتجد معظم مصانع الألبان صعوبة في التعامل مع المتاجر الكبرى، مستشهدةً بسوء شروط الدفع والتعاقد، وتأخير الدفع، وعدم وجود ضمانات للكميات. كما أن هناك صعوبة تواجه صناعة الألبان في مصر في تحقيق الاستفادة من الإمكانيات الكاملة للقطاع التقليدي الذي يمثل النسبة الأكبر في إنتاج الحليب في مصر، والذي يشمل مزارع الألبان الصغيرة والمتناهية الصغر.
تحديات إنتاج الألبان في مصر
انخفاض الإنتاجية لدى منتجو الألبان يؤدي الفقر والأمية إلى انخفاض الإنتاجية بشكل عام وانعدام الكفاءة في تربية الحيوانات المنتجة للألبان، وفي التعامل مع الحليب المنتج، بالإضافة إلى ممارسات إنتاج غير فعّالة ومكلفة، ونقص الخدمات الخاصة للمزارعين الصغار والمتوسطين (مثل خدمات الإرشاد الزراعي والخدمات المالية، والتلقيح الاصطناعي إلخ)، وارتفاع تكاليف المدخلات، وخاصةً الأعلاف.
انخفاض جودة الحليب يفتقر المزارعون إلى المعرفة بتقنيات الحلب الصحية والحديثة وممارسات إنتاج الحليب الجيد ونقص أجهزة اختبار الحليب في مواقع الإنتاج للتحقق من جودة الحليب، وكذلك تلوث الحليب عن طريق الميكروبات في أثناء نقله إلى المناطق الحضرية البعيدة في غياب وسائل التبريد، وطول وقت تجميع الحليب وإضافة مواد الغش، وعدم تنفيذ إجراءات مراقبة الجودة، ولا يوجد حافز لإنتاج لبن عالي الجودة؛ لأنه قد لا يحقق بالضرورة أسعارًا أعلى في غياب القوانين واللوائح التي تنظم أسعار الحليب.
نقص الخدمات البيطرية والدعم لحكومي عدم حصول المزارعين الصغار والمتوسطين على خدمات بيطرية كافية مع انخفاض جودة السلالات المحلية، وعدم القدرة على الوصول إلى السلالات المحسنة، وارتفاع ثمن سلالات الألبان عالية الإنتاج، والتي لا تترك للمزارع أي خيار سوى السلالات المتاحة والمنخفضة الإنتاجية، مما يؤثر علي جودة وكمية الحليب المنتج، كما أن العديد من المزارعين الصغار يفتقرون إلى التمويل اللازم لتحديث مزارعهم وشراء المعدات الحديثة.
انخفاض جودة الأعلاف المتاحة وأنظمة التغذية الرديئة تُعد مصر من منتجي الألبان الأعلى تكلفة، وخاصةً عند مقارنتها بالدول النامية الأخرى، نظرًا لارتفاع تكلفة المراعي وندرة محاصيل الحبوب. ويُجبر ارتفاع تكلفة زراعة الأراضي للأعلاف الخضراء وارتفاع أسعار خليط الأعلاف المركزة المزارعين التقليديين على استخدام مواد أقل جودة لتغذية الحيوانات المنتجة للبن، مثل النباتات العشبية أو بقايا المحاصيل في الحقول، وخاصة في الصيف والخريف، عندما يكون العلف نادرًا. مما يؤدي إلى تعرض هذه الحيوانات إلى المواد الكيميائية وبقايا المبيدات الحشرية من العشب والمحاصيل. ومن ثم، تشهد هذه المواسم انخفاضًا في إنتاجية وجودة الحليب وتدهورًا في صحة الماشية بشكل عام.
استراتيجية توطين الألبان في مصر
يمكن القول بأن “شركة مصر للألبان والأغذية” (تأسست عام ١٩٥٦) كانت نموذجاً لتوطين صناعة الألبان في مصر، حيث كانت حتى عام ١٩٩٠، أكبر شركة متخصصة في صناعة الألبان ومنتجاتها في الشرق الأوسط وأفريقيا حيث امتلكت الشركة تسعة مصانع في مدن: القاهرة، والإسكندرية، ودمياط، والمنصورة، وطنطا، والإسماعيلية، وكوم أمبو، وسخا، وأكثر من ستين مركز تجميع، تتولى تجميع الألبان من جميع محافظات مصر من المزارعين ومنتجي الألبان لتُنْقَل إلى مصانع الشركة عبر سيارات مجهزة بأحدث التقنيات، بالإضافة إلى المركز الوطني بالإسكندرية الذي تأسس عام ١٩٦٣، بالتعاون مع منظمة الأغذية والزراعة التابع للأمم المتحدة (الفاو) وكان يهدف إلى تطوير منتجات الألبان وتقديم منتجات جديدة لمصانع الشركة. وكانت تلبي احتياجات مصر من الألبان ومنتجاتها، واستطاعت افتتاح خط تصدير للدول الخارجية. أما في الوقت الحالي فهناك العديد من المقترحات نحو سبل تحقيق توطين صناعة الألبان في مصر كالتالي:
زيادة كفاءة الإنتاج بتنمية الثروة الحيوانية وذلك عن طريق استخدام سلالات محسنة وراثياً وسلالات عالية الإنتاجية ذات تاريخ موثق لضمان الإنتاج الاقتصادي المربح. وقد يتطلب ذلك استيراد ماشية عالية الإنتاجية من الخارج، وموثوقة المصدر واستخدام تقنيات التكنولوجيا الحيوية لتحقيق تحسين وراثى سريع، وتطبيق الانتخاب الجينومي واختيار أفضل الطلائق للتلقيح (لزيادة إنتاج الحليب وتحسين الصفات التركيبية له) وتوفير نظم التربية السليمة الملائمة لها وتوفير الاحتياجات الغذائية للحيوان على أسس علمية بما يضمن كميات ومكونات التغذية السليمة. مع توفير الرعاية الصحية والبيطرية للحيوانات، وتوفير اللقاحات لتحصينها من الأمراض مثل مرض الحمى القلاعية وتوفير كوادر بيطرية مدربة ومراكز علمية بيطرية للأبحاث والتدريب، وزيادة إنتاج الأعلاف وتشمل البرسيم الحجازي والذرة الصفراء، مع الالتزام بزراعة تلك المحاصيل بمعايير الجودة العالمية. وتشجيع إنشاء مزارع الألبان المتخصصة والاستفادة من قانون الإصلاح الزراعي. والاهتمام بطريقة الحلب وسرعة نقل الحليب من أماكن الحلب إلى مراكز تجميع الحليب في وسائل مخصصة لذلك، للحصول على ألبان عالية الجودة.
السياسات الحكومية ونظام التسويق بنية تحتية حديثة لتجميع الحليب وتصنيعه وتوزيعه وتوفير فرص تسويق لمنتجات الألبان المحلية لزيادة دخل أسر المزارعين وتحسين الاقتصاد الوطني بشكل عام ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد مراكز تجميع الألبان، حيث أطلقت وزارة الزراعة مشروعا قومياً بقيمة مليار جنيه لإنشاء مراكز جديدة لتجميع الألبان وتجديد المراكز القائمة للمحافظة علي جودة الحليب وتقليل عملية الفقد، وذلك بهدف توفير منتجات ألبان صحية وآمنة للسوق المحلي وبأسعار مناسبة. أنفقت الوزارة حتى الآن نحو 400 مليون جنيه لإنشاء 34 مركزا جديداً وتحديث 218 مركزاً قائمًا، ويركز المشروع في المقام الأول على القرى الريفية، والعمل كحلقة وصل بين منتجي ومصنعي الألبان، حيث تقوم بدورها بتجميع الحليب وترشيحه وتبريده؛ ومن ثم المحافظة على جودته وإجراء بعض الاختبارات على الحليب مثل تقدير نسبة الدهن وتحديد مدى الجودة الميكروبيولوجية للبن لتحديد سعره، مما يدفع المنتج إلى تحسين صفات الحليب المنتج وعدم اللجوء إلى طرق الغش. ومن ثم توحيد صفات الحليب الوارد من مركز التجميع إلى المصانع، وبهذا تحصل مصانع الالبان على كفايتها من الحليب مع توفير الوقت وتقليل نفقات النقل وتسهيل التعامل بين المنتجين والمصنعين. وتقع معظم مراكز تجميع الحليب في محافظات الغربية والبحيرة وبني سويف، ويوجد في مصر 826 مركزًا لتجميع الألبان على مستوى الجمهورية، موزعة على 14 محافظة فقط، وفقًا لبيانات وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي. وقد أُدْرِجَت مراكز تجميع الألبان ضمن مبادرة البنك المركزي للقروض الميسرة بفائدة منخفضة (5%) للتخفيف من الأعباء المالية على صغار المربين.
التغلب على التحديات اللوجستية والتنظيمية الاهتمام بتطوير البنية التحتية في القرى الريفية، تخفيض تكاليف استهلاك الطاقة، وتخفيض التعريفة الجمركية لاستيراد الماشية الحلابة الأجنبية، وإعفاءات ضريبية لمشروعات إنتاج الجبن الجاف، ومنتجات الشرش والمنفحة والبادئات الميكروبية ومصانع معدات الألبان المحلية مع تحمل الدولة جزءا من تكاليف توصيل المرافق لمثل هذه المشروعات.
التدريب والتوجيه والدعم المالي تحسين معارف ومهارات المربين والمصنعين وزيادة القدرة التنافسية للمنتجات المصرية من خلال تحسين الجودة والامتثال للمعايير المطلوبة (سيكون لذلك تأثير إيجابي مباشر على معيشة صغار المنتجين)، وتوفير خدمات لرفع كفاءة المزارعين (التدريب والإرشاد والدعم المالي. وكذلك دعم المزارعين من خلال زيادة فرص الحصول على الأعلاف عالية الجودة.
التسعير كحافز للسوق يُحَدَّد السعر من خلال لجنة مكونة من كبار مزارعي الألبان والمصنعين ومسؤولين من وزارة الزراعة مع الأخذ في الاعتبار العوامل المؤثرة على السعر وهي أسعار الأعلاف، ونسبة الحليب إلى العلف، وأسعار السوق، والسعر العالمي للبن المجفف.
اللوائح والسياسات ينبغي وضع لوائح ومعايير لقطاع الألبان، ووضع نظام تسعير عادل، وضمان سلامة الحليب ومنتجاته للمستهلكين جميعهم في القرى المحلية والأسواق الحضرية.
البحث والتطوير تحفيز البحث الأكاديمي والميداني والعملي والاستفادة من نتائج البحث العلمي لتعزيز ممارسات الإنتاج الجيد، وإنتاج الأعلاف الخضراء وتشجيع الابتكار.
وخلاصة القول إن قطاع الألبان في مصر قطاع فرعي بارز يتمتع بإمكانات كبيرة للنمو الاقتصادي، ويتضمن توطين منتجات الألبان تكييف إنتاج الألبان ومعالجتها لتلبية الاحتياجات والتفضيلات المحددة للأسواق المحلية، ولتوطين الصناعات اللبنية العديد من الفوائد مثل زيادة الإنتاج المحلي وتحقيق الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي، وتحفيز الاستثمار وتقليل الاعتماد على الاستيراد، بالإضافة إلى خلق المزيد من فرص العمل وتعزيز القدرة التنافسية للصناعات اللبنية المصرية في الأسواق العالمية، وهناك العديد من المقترحات لاستراتيجية توطين صناعة الألبان في مصر، والتي تتطلب التعاون بين الوزارات المعنية المختلفة والهيئات الرقابية والتشريعية والقطاع الخاص والمزارعين والمراكز البحثية.