د. فوزى أبو دنيا يكتب : معوقات الإنتاج المستدام للحيوانات المجترة
3 يوليو، 2020 - بتوقيت 11:57 ص
د. فوزى أبو دنيا
المدير السابق لمعهد بحوث الإنتاج الحيوانى
فى الوقت التى تسعى فيه الدولة للمحافظة على إستدامة تربية الحيوانات المجترة الإ أن هناك عديد من المعوقات سواء على المستوى المحلى أو الدولى والتى تحد من الإستدامة وتحقيق عناصرها لهذه الحيوانات بالذات وذلك بمقارنتها بباقى مكونات الثروة الحيوانية من طيور وأسماك. في الأونة الأخيرة حظيت تربية الحيوانات المجترة الزراعية بإهتمام متزايد كمصدر رئيسي لإبعاثات الغازات الدفيئة وغيرها من العوامل الخارجية البيئية السلبية مثل إنخفاض جودة المياه، وتنظيم تدفق المياه. البعض في الأوساط الأكاديمية ووسائل الإعلام يصورون أن الحد من إستهلاك المنتجات الحيوانية، خاصة اللحوم الحمراء ومنتجات الألبان تأتى كأولوية في التخفيف من حدة تغير المناخ، فى ذات الوقت الذى يسعى دعاة حماية البيئة لإغراء المزارعين فى الدول المتقدمة وهناك مبادرات حثيثة الأن لجعل الدول النامية تتبنى هذا الأمر بتبنى استخدامات بديلة والتي، كما يزعمون، أنها أفضل من إنتاج المجترات سواء على المستوى البيئى أو الإقتصادى أو حتى من ناحية القيمة الغذائية، ومن هذه التوجهات إستبدال بروتين اللحوم الحمراء بديدان الحشرات. وبالتالى هنا أصبح من السهل بشكل متزايد قبول السرد البسيط الذى يطلقونه للعوام “كلما قل أكل اللحوم ، كان ذلك أفضل”. ومع ذلك ، أعتقد أن مقتنى الحيوانات المجترة في العالم بشكل عام لديهم القدرة الفريدة على إدارة الموارد الزراعية لتقديم عدد من السلع العامة الهامة فى حياة الإنسان، إلى جانب إنتاج لحوم عالية الجودة مستدامة بيئيًا. حيث أن الإستغناء عن المنتجات الحيوانية خاصة اللحوم لن يتم بسهولة لأن تغيير النمط الغذائى للمجتمعات لاياتى بين عشية وضحاها. ويمكن لقطاع الثروة الحيوانية المجترة أن تقل مساهمته فى إنبعاث الكربون بشكل كبير مع عديد من خدمات النظم البيئية المرغوبة بشكل عام فى الريف رغم أى تكهنات حالية فى هذا الشأن. ويمكن إعداد تحقيق جاد فى هذا الشأن باعتباره سيناريو مستقبلي لإنتاج الماشية وإدارة الموارد الطبيعية الريفية، فلا يجب علينا قبول الأمر برمته أو تركه كله (فما لا يدرك كله لا يترك جله) بخصوص تربية المجترات للحصول على الالبان واللحوم. فهناك إحتمال لسيناريو “أفضل مما يخفف إلى حد كبير من العوامل الخارجية البيئية السلبية للإنتاج الحيواني مع الحفاظ على الفوائد أو حتى تعزيزها.
لقد نشأت فى الريف وكان لدينا ماشية من الجاموس والأبقار والأغنام والماعز وفى ذات الوقت فأنا متخصص فى الإنتاج الحيوانى وتخصصى وبحوثى فى تغذية الحيوان وتخمرات الكرش فى المجترات تجعلنى على بينه من دور الحيوانات المجترة فى إنبعاث الغازات الدفيئة (ثانى أكسيد الكربون – الميثان – أكسيد النيتروز). لذا على الأقل بالنسبة لى فإن القاء تباعية التغيرات المناخية كاملة على قطاع الثروة الحيوانية المجترة أمر مفهوم لكنه مرفوض فى ذات الوقت. ولا يرجع ذلك إلى مجرد جذورى الريفية بل يرجع الى أن هذا القطاع يعتبر جزءًا مركزيًا من الإقتصاد الزراعى والمجتمع والتراث الثقافي والحضارى الإنسانى. كثير من الدول تستخدم الريف لديها فى السياحة كى يدر عليها دخلا كبيرا مما يسهم فى إستدامة القطاع الريفى من السياحة البيئية لجو الريف، وعلينا إعادة النظر فى هذه الجزئية بشكل جاد فى مصر. وفى الحقيقة هناك عديد من الدراسات التى تبنت تقييم إنبعاثات الغازات الدفيئة الناجمة عن الثروة الحيوانية فى مناطق شتى من العالم، وكثير من الدراسات أيضا تمت على معالجة هذا الأمر (وكان لى بعض المساهمات العلمية والمنشورة فى دوريات علمية محلية ودولية) فى إطار المحافظة على النظام البيئى مما يسلط الضوء على أنه يمكن الحفاظ على كثير من الفوائد لتربية الحيوان الزراعى في ظل سيناريوهات إنتاج معينة، كما إن السلبيات الناتجة عن إنبعاثات الغازات الدفيئة عند ربطها بالمستويات الحالية للإنتاج والاستهلاك للمنتجات الحيوانية من الحيوانات المجترة الزراعية أو عند ربط علاقة الحيوان بالنبات والتربة تجد أن هذه السلبيات لاتذكر خاصة أنه وكما ذكرنا أننا يمكن بإتباع نظم معينة يمكن أن نحد من إنبعاث هذه الغازات. ولقد أشارت الكثير من الدراسات إلى أن إدراج كميات ولو صغيرة (أي مخفضة) من اللحوم ومنتجات الألبان في الوجبات الغذائية للإنسان يعتبر أمر صحى. فى هذا الإطار إجريت العديد من الدراسات لوضع سيناريوهات لنظم تغذية الحيوانات المجترة والتى أسفرت عن جدية فى خفض الإنبعاث الناتج من الغازات الدفيئة. على جانب أخر وكما اشارنا لإهمية وجود الحيوان الزراعى فى المنظومة الزراعية فعلاقة الحيوان والتربة والنبات هى بالفعل دورة طبيعية لايجب المساس بها أو محاولة كسرها أو التلاعب بها للحفاظ على البيئة وتوفير منتج زراعى نباتى وحيوانى معا.
إنتاج المجترات في المستقبل
كنتيجة للإجماع المتزايد على أن الانبعاثات من إنتاج الثروة الحيوانية المجترة يجب أن ينخفض للتخفيف من حدة تغير المناخ (الوصول إلى صافي الصفر عالمياً بحلول عام 2050 لتقييد الاحترار العالمي إلى 1.5 درجة مئوية). يعد القضاء على الإنتاج الحيواني إحدى الطرق للقضاء على إنبعاثاتها، ولكن قد لا يكون هذا هو الطريق الوحيد المتاح. على الرغم من أن محاولة جعل إنتاج الحيوانات المجترة أكثر كفاءة لا يؤدي إلى تخفيضات كافية للانبعاثات (ومفهوم الكفاءة نفسه موضع خلاف وغامض). ومن هنا تاتى المناداه بوجوب أن ينخفض استهلاك اللحوم لتلبية المبادئ التوجيهية الغذائية. لكن فى الحقيقة لا تتوافق هذه المتطلبات مع المنتجين (خاصة الكبار منهم فى الدول الرعوية) الذين يتبنون التحول لإنتاج كمية صغيرة من اللحوم عالية الجودة ومنخفضة البصمة الكربونية بدلاً من التوقف التام عن الإنتاج. الجدير بالذكر، حتى لو كان الهدف هو وقف كامل للإستهلاك من المنتجات الحيوانية لأسباب مناخية وصحية، فإن هذا لن يحدث بين عشية وضحاها، على الرغم من تطور النظم الغذائية النباتية المرنة. على الجانب الآخر فإن إنخفاض طلب المستهلكين على المنتجات الحيوانية سوف يستغرق بعض الوقت حتى يتلاشى. في كلتا الحالتين، يجب أن تكون زيادة استدامة إنتاج المجترات ذات أولوية. فى هذا المضمار أود أن أزعم أنه يجب أن يكون هناك إمكانية لدمج تدابير التخفيف من الانبعاثات جنبًا إلى جنب فى الربط بين دور الحيوان فى المنظومة الزراعية بين النبات والحيوان والأرض مع استمرار وجود الزراعة المجترة ولو على مستوى منخفض من الإنتاج.
دور زراعة الأشجار والشجيرات
من ألمعروف أن زيادة البصمة الكربونية والمائية لإنتاج اللحوم والألبان يأتى من وجود نشاط تربية المجترات فى نظام الزراعة المروية والتى تستنفذ كميات كبيرة من الوقود الذى ينبعث عنه ثانى اكسيد الكربون لذلك فإن تربية الحيوانات على الشجيرات العلفية التى لاتحتاج الى كميات كبيرة من المياه ولا استخدام مواتير الرش لمدد طويلة فى مقاومة الافات ولا ماكينات الرى واستهلاكها للوقود، كذلك توفير المجازر ومصانع الألبان بالقرب من مراكز الإنتاج وفى ذات الوقت الأهتمام بالتشجير حول الكيانات الزراعية (وهو ما يمكن أن يطلق عليه الإستزراع الحيوانى خاصة فى المناطق القاحلة) وهذا الموضوع فى الحقيقة يحتاج الى مزيد من الإستفاضة يمكن أن نخصص له موضوع منفصل. كما أن زراعة الأشجار على الطرقات فإنها سوف تعمل على حماية النباتات والحيوانات من أثار الرياح والأتربة ويعمل على تخفيف حدة الحرارة كما أن الأشجار تعتبر بالوعات لإمتصاص غاز ثانى أكسيد الكربون الناتج من العمليات الزراعية. لذلك فإن دمج مشاريع تربية المجترات فى ظل هذا النظام البيئى سوف يقلل كثير من قيمة البصمة الكربونية والمائية للمنتجات الحيوانية الناتجة من الحيوانات المجترة كالالبان واللحوم. فى ذات الوقت سوف يساعد على تحسين نوعية المياه وكميتها وتعزيز التنوع البيولوجي. ولقد أشارت التقارير الخاصة بالتغيرات المناخية ومنظمة الأغذية والزراعة إن العائق الرئيسي أمام المزارعين الذين ينفذون مثل هذه الأنظمة هو نقص الحافز المالي. لهذا ارى أن إعادة النظر فى زراعة الطرق بالريف المصرى بلإشجار كما كان يحدث قديما سوف يحدث أثار إيجابية على بيئة الريف المصرى الذى أصبح يئن من تلوث الحرق للمتبقيات الزراعية والأفراط فى إستخدام الميكنة والتسميد بشكل كبير. وهنا يجب أن نشير الى ان الحكومة يجب أن تضع خطة على مدى زمنى لنظام ادارة للاراضى المصرية بيئيا، والذي سيحفز تعزيز البيئة ، بما في ذلك تدابير التخفيف من تغير المناخ. يمكن أن يكون ذلك بنظام التحفيز المعنوى والمادى على زراعة الأشجار في مزارع الماشية والحقول، مما يسهل الانتقال نحو الزراعة الحيوانية المحايدة للكربون في مصر. علاوة على ذلك، يجب أن نشير إلى إمكانات رأس المال الخاص لتمويل خطط خفض الكربون، عن طريق المساهمة فى توفير أنواع من الأشجار يمكن إستخدامها فى صناعة الأثاث مما يساعد فى إستعادة المصروفات وفتح أبواب عمل فى مجال صناعة الأخشاب والموبيليا. ناهيك عن أن زراعة الأشجار فى الريف بكثافة سوف تغيير من المناظر الطبيعية فى الريف المصرى والتى يمكن أن نستخدامها فى السياحة البيئية كما يحدث فى البلاد الأخرى. فى الواقع إن إهتمام الحكومة بصون وتحسين الموارد الوراثية المحلية سوف يسهم بشكل كبير فى إنجاح مثل هذه الأفكار والإتجاهات مما يؤدى إلى زيادة تدفقات الإيرادات من (الإنتاج المنخفض). بالإضافة إلى المدفوعات من الحكومة و / أو رأس المال الخاص ستجعل مثل هذه الممارسات خيارًا مجديًا اقتصاديًا للمزارعين. ومع ذلك ، هناك عدد من أسباب الحذر:
- إن تشجير الطرق بالريف (وريها من مياه الصرف الصحى) وغيرها من الأراضي التي يتم زراعتها بالأشجار للتخفيف من إنبعاثات الغازات الدفيئة، وكذا تركيز تعبئة رأس المال العام والخاص نحو هذا الهدف للوصول إلى صافي الإنبعاثات الصفرية مع الحرص على جعل الأنشطة الزراعية الأخرى محايدة للكربون. لضمان فاعلية سوق الإئتمان الكربوني والذى يمثل تحديًا كبيرًا فى المستقبل.
- كثير من الأراضى الزراعية تكون مستاجره وبالتالى فإن إنضمام المستاجرين لهذا النظام قد يكون صعب سواء منهم أو من الملاك الأصليين للأراض أو – بشكل أكثر إثارة للجدل – قد يحاولون الوصول إلى حصة من الإيرادات من زراعة الأشجار، على سبيل المثال عن طريق زيادة الإيجار الذي يتقاضونه. في حين أن هذه المشكلة ليست مستعصية على الحل، إلا أنه يجب تصميم المخططات بعناية لضمان التقاسم المنصف للمنافع، وخفض الكربون طويل المدى للأراضي المستأجرة على فترات إيجار قصيرة.
- تسحب الأشجار ثاني أكسيد الكربون من خلال عملية التمثيل الضوئي، في حين أن الانبعاثات الرئيسية التي تثير القلق من الحيوانات المجترة هي غاز الميثان. إن مقاييس مساواة غازات الدفيئة هذه من حيث مساهماتها في تغير المناخ في المستقبل هي مسألة مثيرة للجدل في الأدبيات العلمية ولها عواقب مهمة على القرارات السياسية. فإذا كان سيتم زراعة الأشجار لتعويض إنبعاثات غاز الميثان، فيجب أن تكون هناك درجة عالية من الثقة في أن المعادلة بين خفض ثاني أكسيد الكربون وإنبعاثات الميثان ذات مغزى وقوية. يمكن أن يؤدي إستخدام مقاييس Global warming potential (GWP) التي تم تطويرها مؤخرًا إلى تحقيق معادلات دقيقة في المناخ ولكى يمكن تحقيقها بين الغازات الدفيئة قصيرة العمر مثل الميثان وثاني أكسيد الكربون طويل العمر لإبلاغ جهود التخفيف.
- يجب ضمان أن تكون زراعة الأشجار بشكل دورى ومستمر حيث يتم إعادة الزرع للأشجار بما يضمن إستمرارية توافر بلوعات إمتصاص الكربون مع ضمان أن الإستخدام النهائي للأخشاب لم ينتج عنه إعادة إطلاق ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي (على سبيل المثال، يُستخدم في الأثاث أو البناء بدلاً من من الحرق).
يجب هنا أن نشير إلى أن الميثان ليس الغاز الدفيىء الوحيدة الذى يثير القلق وإرتباطه بإنتاج المجترات، بل أن أكسيد النيتروز (المرتبط في المقام الأول بتطبيق الأسمدة) وبعض ثاني أكسيد الكربون (من الإنبعاثات المضمنة في علف الماشية، وإستخدام الآلات، من بين أمور أخرى) والتى تنبعث أيضا خلال العمليات الزراعية. وغني عن القول أن الجهد المبذول لجعل إنبعاثات الغازات الدفيئة المرتبطة بالحيوانات المجترة إلى صافي الصفر ستحتاج إلى أخذ مصادر الإنبعاثات هذه في الإعتبار، ولكن هذا الأمر سوف يؤدى إلى المزيد من التباين فى المزارع، مما يحد أكثر من أي قدرة على تقديم توصيات إدارة واسعة النطاق