د . علي اسماعيل يكتب : ندرة المياه وكفاءة ادارتها في مصر
4 يوليو، 2020 - بتوقيت 3:28 م
د. علي اسماعيل
استاذ ادارة الاراضي والمياه – مركز البحوث الزراعية – مصر
ابتداءً من القرن التاسع عشر (عهد محمد علي) ، جرت محاولات لاستغلال نهر النيل بشكل أكثر فاعلية مع بناء السدود علي النهر للسيطرة علي مياه النيل والاستفادة منها . وتجسد ذلك مع بداية انشاء خزان اسوان في عام 1902 و تعتبر هذه بداية الزراعة الحديثة في مصر. بعد حوالي 160 عامًا ، تم بناء السد العالي في أسوان ، واصبح يسيطر تمامًا على نهر النيل فمنذ عام 1964 وبدء بناء السد العالي فمنذ إنشاءه وقد حرمت التربة المصرية من الغرويات المخصبة للاراضي الزراعية ( وكان يقال عليها طمي النيل بمكوناته الذهبية ) والتي كانت الدلتا هي محور الترسيب والتراكم الذي صنعت منه عبر الف السنين واعتبرت اخصب ارض زراعية علي مستوي العالم . واطلق عليها هيرودوت مقولته التاريخية ان مصر هبة النيل وكانت ترسيبات الطين تسير من الحبشة في اتجاه المصب وربط النيل مصير شعبي مصر والسودان كمصير واحد واصبح ما يطلق علية عبر الزمن ابناء وادي النيل وتكونت معه حضارة عظيمة علي ضفافة وهي الحضارة المصرية القديمة .
واعتبرت الزراعة المصدر الاساسي لاستدامة المصريين حول النيل وصناعة حضارة هي قبلة السياحة العالمية حتي الان لوجود النيل مما أحدث تغييرا جوهريا وثوريا في الزراعة المصرية وتطويرها عبر التاريخ والتي امتدت حتي وقتنا الراهن لنراها وهي اهم عناصر البناء ودعم الاقتصاد القومي وتلقص دور الزراعة في الترتيب والاولويات الاقتصادية مع التحرر الاقتصادي واليات السوق الحر مع بداية التسعينات .
النيل هو المصدر الرئيسي للمياه العذبة في مصر بحصة تزيد عن 95٪. تمثل مياه النيل ما يقرب من 80 ٪ من متطلبات الري. ويعتبر مياه النيل مصدر المياه بشكل رئيسي في الأراضي المروية في وادي النيل ودلتا النيل ، والتي تشكل مجتمعة 85 ٪ من إجمالي الأراضي المروية. و تعتمد الزراعة علي الري السطحي في مصر بشكل كامل تقريبًا من مياه النيل عبر شبكة ترع تبلغ 33 الف كيلو متر بخلاف النيل وفروعه التي تزيد عن 1500 كيلو متر وان بلغ إجمالي الموارد المائية الكلية المستخدمة 74.2 مليار متر مكعب وبلغ إجمالي الأراضي المروية ( القديمة والجديدة) 9.4 مليون فدان في عام 2019.
نقص موارد المياه العذبة ونوعية المياه
ان نقص تدفقات النيل او رداءة الموارد المائية ( نوعية المياه) له آثار بارزة على الأنشطة الزراعية وحجم الانتاج الزراعي والتربة الزراعية وانعكاسه علي الاقتصاد ككل و تلعب الزراعة دورًا مهمًا في الاقتصاد المصري وهي المستهلك الرئيسي لموارد المياه العذبة. فقد كانت حصة الزراعة من الناتج المحلي الإجمالي هي الأكبر بين القطاعات الفردية سابقا ، حيث ساهمت بنحو 20٪ وصلت الي 18 % من الناتج المحلي الإجمالي و القطاع الزراعي يمتص حوالي 34٪ من العمالة و تمثل الصادرات الزراعية 17٪ من إجمالي الصادرات المصرية و تستهلك الزراعة حوالي 85٪ من إجمالي الموارد المائية السنوية و تعتمد أكثر من 70٪ من المساحة المزروعة المروية على أنظمة الري السطحي منخفضة الكفاءة والتي تتسبب في سوء ادارة المياه علي المستوي العام في منظومة التوزيع علي مستوي الترع وفي الحقل والتي يتسبب معها تدهور وانخفاض في إنتاجية الأراضي مع سوء حالة الصرف الزراعي ومشكلات التغدق وخاصة في الاراضي الطينية ثقيلة القوام والتي تذداد معها الملوحة والقلوية . علاوة على ذلك ، تؤثر الممارسات الزراعية غير المستدامة وإدارة الري غير السليمة على جودة موارد المياه و إن انخفاض جودة مياه الري وذيادة ملوحتها او تلوثها بدوره ، له آثار ضارة على التربة والمحاصيل المروية .
النمو الاقتصادي والسكان وذيادة الطلب علي المياه
ففي ظل النمو الاقتصادي والسكاني الحالي بالإضافة إلى التحديات البيئية المستقبلية ، تواجه مصر العديد من المشاكل بوضع حلول استراتيجية سريعة لمواجهة مشكلة ندرة المياه الخطيرة وتحسين نوعية المياه وتدبير موارد غير تقليدية والبحث عن تقنيات جديدة في المعالجة والتحلية . ويعد معدل توفر المياه للفرد بالفعل واحدًا من أدنى المعدلات في العالم في عام 2000 ، كان نصيب المياه للفرد حوالي 1000 م 3ومن المفترض أن ينخفض هذا إلى النصف إلى ما دون معدل الندرة بحلول عام 2025. كما انخفض نصيب الفرد من المياه المتجددة من 853.5 م 3 (2002) إلى 785.4 م 3 (2007) ووصل إلى 722.2 م 3 (2012). ومن المتوقع أن يصل هذا إلى 534 متر مكعب بحلول عام 2030
ويمكن للمرء أن يقول إن الزراعة المصرية واستخدام المياه قد دخلت حقبة جديدة من الاهمية واصبحت المياه ومحدداتها مع ندرتها العامل الاساسي في تطوير وتحديث الزراعة المصرية في ظل التحول من الوفرة الي الندرة .، والسؤال الذي يطرح نفسه ما هي النتيجة المتوقعة والتحديات التي يمكن ان تواجه الزراعة الجديثة ؟؟؟ وقضية تطويرها مع الزيادة السكانية الحادة والمضطردة التي تلتهم الكثير من عوائد التنمية .
فبعد بناء سد النهضة الاثيوبي والتحديات تزداد امام الزراعة المصرية وترتيب الاولويات بإعتبار ان الزراعة هي المستهلك الاعظم من المياه . فمياه الشرب تأتي في الاولوية الاولي تليها الصناعة ثم الزراعة . فقد نري ان الزراعة المصرية لابد لها من ان تعيد ترتيب الاولويات لديها بما يعظم من دورها ومواجهة التحديات المفروضة عليها وان يجد علماء الزراعة والباحثين اليات تطبيقية لحل مشاكل ندرة المياه وتعظيم الاستفادة من وحدة المياه والارض لتعظيم انتاجية الفدان ومضاعفته من المنتج الزراعي سواء لمحاصيل الحقلية او البستانبة وربما تكون استخدام البيوت المحمية ( الصوب الزراعية) هي احد الادوات والاليات التي تعظم الاستفادة من وحدة المياه المستخدمة ووحدة السماد مع الاصناف العالية الانتاجية من هجن الخضر .
وهل تسمح عمليات تدوير المياه وترشيدها في الزراعة حل جزء من نقص الموارد المائية الواردة علي المدي القصير ؟؟؟ ام ان استقطاب موارد مائية جديدة كحصاد مياه الامطار وتحلية المياه نصف المالحة من البحيرات ربما تكون هي الجزء الاساسي والفعال في توفير متطلبات مياه الشرب والصناعة والتي تقلل الضغط علي حصة المياه المخصصة للزراعة واستصلاح الاراضي وان معالجة مياه الصرف الصحي والصناعي واستخدامها مع مياه الصرف الزراعي مرة اخري بمواصفات تصلح لانتاج مجموعة من المحاصيل الزراعية هو طوق النجاه مع وجود مشروعات عملاقة للدولة المصرية كمحطات معالجة ( المحسمة – سرابيوم – بحر البقر) وغيرها من المحطات والتي توجه مياها بعد المعالجة لاستصلاح الاراضي وذيادة الرقعة الزراعية ضمن البرنامج الذي يوليه السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي قائد مسيرة البناء على أرض مصر اهمية خاصة بتحسين نوعية المياه للزراعة وذيادة معدلات التنقية والمعالجة كمورد هام من الموارد المائية . ام ان التوجه العلمي ودور البحث العلمي الزراعي في انتاج الاصناف واستخدام تكنولوجيا الهندسة الوراثية قادرين علي حل جزء من هذة المشكلة بتوفير اصناف من المحاصيل تتحمل الملوحة والجفاف والتغيرات المناخية وتعزز دورها في المدي القصر لحل مشكلة ندرة المياه مع علماء التربية للاصناف النباتية المختلفة .
وقد يعد نظام الري في مصر مثالاً ممتازًا لنظام متعدد الاستخدامات للمياه لدورة ذات كفاءة عالمية عالية تصل الي 76% لاستخدمات المياه ولكن كفاءات محلية منخفضة علي مستوي التوزيع والنقل والاستخدام في الحقل . وتهتم مصر بتوسيع المساحة المروية بمياه نهر النيل دون تقليل الإنتاجية العالية للمناطق المروية الحالية بل تعمل علي تعظيم الانتاجية لكل من وحدة الارض مقابل وحدة المياه المستخدمه . ولإنجاز هذا سوف يتطلب برنامج قومي يحتاج الي دعم ورعاية وشراكة من كافة الجهات من اجل الحفاظ علي مظومة تطوير وتحديث الري ورفع كفاءة الاستخدام . فإن توجيه جهود المحافظة نحو المناطق التي تكون فيها دورات الاستخدام المتعددة ممكنة فان ذلك يمثل نجاح لادارة المنظومة وبالتالي ذيادة الكفاءة [الكفاءة الفعالة] لتكن عالية جدًا بالفعل مما يؤدي إلى وفورات حقيقية في المياه .
فقضية المياه في مصر نراها ذات شقين
– الشق الاول منها الفجوة المتزايدة بين العرض والطلب والثاني تدهور نوعية المياه. و ان مصر تواجه تحديين رئيسيين هما : فقدان المياه وسوء نوعية المياه. “تفقد مصر حوالي 50٪ من مياهها العذبة من خلال سوء الصيانة للإمدادات ومشكلات التوزيع وعملية تلوث المياه ” مشددة على أن عدد كبير من الأمراض التي تنقلها المياه . حيث تؤثر المياه الملوثة أيضًا على توازن النظم البيئية ، وجودة التربة ، وتتسرب إلى طبقات المياه الجوفية. و “تحتاج مصر إلى وضع معايير قوية لجودة المياه والتحكم في الاسمدة ومبيدات الآفات والنفايات الموجودة في المياه.” وتجدر الإشارة هنا إلى أن فقدان المياه وتسربها دون الاستفادة منها بالشكل الكافي ربما يمثل اهم التحديات في الوقت الراهن الذي يجب معالجته والحد منه حتي يتعظم معه مستوي الاستفادة رغن ان المياه المفقودة ليعاد استخدامها ضمن المنظومة مرة اخري داخل منظومة الري سواء كانت من المياه الجوفيه او مياه الصرف الزراعي وان مشكلة تدهور نوعية المياه مترابطان بحجم المياه المتاحة لأغراض محددة مقيدة بجودتها . ومن ناحية أخرى ، قد يتسبب الطلب المتزايد على موارد المياه المحدودة في تدهور الجودة الذي يؤثرعلي تزايد عدد السكان و خاصة في مناطق الأحياء الفقيرة والأنشطة الصناعية والتحضر والتلوث والتغيرات المناخية وكلها تؤثرسلبًا على جودة المياه. علاوة على ذلك ، فإن ارتفاع جودة المياه يعني انخفاض خطر نقص المياه عند مستوى معين من الإنتاج إلى جانب ذلك يؤدي ارتفاع جودة المياه إلى إنتاجية نسبية أعلى مع العوامل الزراعية الأخرى وخاصة الأراضي وانتاجيتها المحصولية . وبالتالي ،
فمن الأهمية بمكان أن تضع مصر استراتيجية شاملة تهدف إلى تعزيز إمدادات المياه من الموارد التقليدية وغير التقليدية وكذلك الحفاظ على جودة المياه وتحسين نوعيتها بصورة افضل وهناك حاجة ملحة لاكتساب المزيد من الأفكار حول جودة المياه وآثارها على الإنتاجية الزراعية.
” وقد اوضحت الدولة في أحد المكونات الرئيسية لاستراتيجية التنمية الزراعية هو تحقيق تحسن تدريجي في كفاءة أنظمة الري لتصل إلى 80 في المائة في مساحة 8 مليون فدان ، وتقليص المساحات المزروعة إلى الأرز من 1.673 م فدان ( 2007) إلى 1.3 مليون فدان بحلول عام 2030 من أجل توفير ما يقدر بـ 12400 مليون متر مكعب من المياه “(منظمة الأغذية والزراعة 2013 ، ص 13 ).
وان الاثار المرتبطة بالتحسينات في نوعية المياه والأراضي ربما يشجع علي توفير تقييمات كمية لتأثير التحسينات النوعية لادارة المياه وكذا لأنواع مختلفة من نوعيات مختلفة لمياه الري تحت ظروف ندرة المياه. وان نتائج دراسات المحاكاة التي تمت من خلال بعض الباحثين تنشر إجابات لعدة أسئلة بحثية. ما مدى أهمية الآثار المحتملة لانخفاضات مياه النيل على القطاع الزراعي والاقتصاد ككل؟ ما هي التحسينات الكافية في كفاءة الري المطلوبة لتعويض الخسائر المحتملة لمياه النيل؟ هو الاستثمار في تأمين الموارد المائية غير التقليدية ، في الواقع ،مع البحث عن استراتيجية بديلة قابلة للتطبيق لاستراتيجية كفاءة الري وبالتالي فإن المهام الملحة هي إعادة تقييم إنتاجية مياه الري والأراضي وكذلك كفاءة نظام الري الحالي والادارة الشاملة والمتوازنة لمنظومة الري من خلال الادارة المتكاملة للموارد المائية في كافة الانشطة ودراسة الطلب علي المياه والاحتياجات ووضع الاولويات ودراسة التخصيص الأمثل للموارد المائية واهم موارد التنمية لهذه الموارد بمضمون شامل يسمح برفع كفاءة الاستخدام وتوفيرها بشكل اقتصادي دون ظهور خلل اجتماعي او اقتصادي يترتب علي ذلك .
ان دراسة الآثار المحتملة للتغيرات في كفاءة الري المرتبطة بالتحسينات في نوعية المياه وكفاءة التوزيع والاستهلاك أمر بالغ الأهمية للاقتصاد المصري لتوفير الاحتياجات المائية المطلوبة والملائمة لمعظم الاحتياجات المختلفة سواء الزراعية او الانشطة السكانية او الصناعية . وهناك دراسات تمت لتقييمات كمية لتأثير تحسينات الجودة لأنواع مختلفة من مياه الري تحت ظروف ندرة المياه باستخدام نموذج ( CGE STAGE) لمصرتقوم بتقسيم الحسابات الزراعية حسب الموسم وتقنية الري والأنشطة الزراعية المعتمدة على مياه النيل والمياه الجوفية. وتظهر نتائج المحاكاة أن مصر يجب أن تكون قادرة على إدارة التخفيضات المحتملة في إمدادات مياه النيل بممارسات ري أكثر كفاءة تضمن إنتاجية أعلى لمياه النيل والمياه الجوفية في الأراضي المروية وعلاوة على ذلك تظهر النتائج أنه حتى مضاعفة جميع موارد المياه غير التقليدية ليست كافية لتعويض الآثار السلبية المحتملة لخسائر مياه النيل المتوقعة . وهذا يبرز الأهمية الحاسمة لزيادة كفاءة الري والادارة الجيدة لمنظومة الري علي النطاق القومي وانعكاسها علي الاقتصاد المصري