د فوزي ابودنيا يكتب : استخدام التخمر الحيوي الدقيق لإنتاج الألبان

13 فبراير، 2023 - بتوقيت 11:13 ص

المدير السابق لمعهد بحوث الإنتاج الحيواني – مركز البحوث الزراعية

 

اللبن هو الإفراز الطبيعي لحلب الحيوانات الثديية والذي لا تزيد الحموضة فيه عن 0.16 – 0.17 %، يبلغ الإنتاج العالمي من اللبن حوالي 536 مليون طن سنوياً يصل نصيب الدول المتقدمة حوالي 85 % من هذا الإنتاج والــ 15 % المتبقية هي نصيب الدول النامية. يعتبر اللبن البقري واللبن الجاموسي هما المصدرين الرئيسيين للبن فنجد إن إجمالي اللبن البقري يمثل حوالي 87% من الإنتاج العالمي بينما يمثل اللبن الجاموسي حوالي 10 % من الإنتاج العالمي إلا أن هناك أيضا البان الضأن.
يتكون اللبن الطبيعي أساسا من الماء الذي يمثل 87% ومواد صلبة 13 %، وتتكون المواد الصلبة في اللبن من البروتينات والدهون والفيتامينات والأملاح المعدنية وتتباين مكونات اللبن الطبيعي طبقا لنوع الحيوان المنتج منه اللبن.
ونظرا للحملة البيئية العالمية المتوهجة ضد تربية الحيوانات الزراعية وتكييل الاتهام لها بانها من أحد الأسباب الرئيسية في تغيرات المناخ، بدأت تتجه الأنظار للبحث عن بدائل الحيوان لتوفير الاحتياجات من الألبان الطبيعية لإنتاج البان بديلة. وفى الحقيقة لم تكن تقنية استخدام التخمر الحيوي هي الأولى من نوعها في البحث عن إنتاج بدائل الألبان، فقد سبقها إنتاج اللبن من الصويا كمصدر نباتي. حيث تمّ إنتاجه قديماً في الصين إلا أنه ينتشر انتشارا واسعا في دول شرق آسيا ولم ينتشر في أوروبا حتى بدايات القرن العشرين. ويتكون لبن الصويا أساساً من المستخلص المائيّ لحبوب فول الصويا الكاملة، ويشكّل هذا المستخلص محلولا أبيض سكريا يحتوي على البروتينات، والكربوهيدرات المذابة في الماء، كما أنّه يتميز أيضا باحتوائه على معظم الأحماض الدهنية الموجودة في زيت فول الصويا. ويمتلك حليب الصويا قوام كريمي، وطعماً معتدلاً، لكنّه قد يتغير بحسب الشركات المصنّعة له، ويُمكن استخدامه كبديلٍ لألبان الأبقار، وخصوصاً مع القهوة، أو مع الإفطار، أو مع الأطباق المالحة. يحتوي لبن الصويا على الكمية نفسها من البروتينات كحليب الأبقار (لكن ليس نفس تدرج الأحماض الأمينية). كما إن لبن الصويا الطبيعي يحتوي على القليل من الكالسيوم. على عكس حليب البقر كما يحتوي لبن الصويا على القليل من الدهون المشبعة ولا يحتوي على الكولسترول. يؤدي استخدام فول الصويا لصنع لبن الصويا، بدلاً من تربية الأبقار أمرا مفيد بيئيا، حيث تحتاج الأبقار إلى طاقة أكبر بكثير من أجل إنتاج الحليب، فالحيوان يحتاج الى تغذية ويمكن أن يستهلك ما يصل إلى 24 كجم من الطعام على أساس المادة الجافة و90 إلى 180 لترًا من الماء في اليوم، وذلك كي ينتج متوسط 40 كيلوجرامًا من اللبن يوميًا. من ناحية أخرى فان زراعة نبات فول الصويا كأحد النباتات البقولية تعمل على تجديد محتوى النيتروجين في التربة التي تزرع فيها.
ونظرا لان أكثر من 80% من سكان العالم يستهلك منتجات الألبان بانتظام، ومن المتوقع أن تكون هناك زيادة في الطلب على هذه المنتجات مستقبلا. ويتوازى مع ذلك الدعوات المتزايدة من ناشطي البيئة باعتبار الحيوانات الزراعية من الأسباب الرئيسة في زيادة غازات الاحتباس الحراري لما تطلقه من كميات كبيرة من غاز الميثان وبالتالي تتزايد المطالبة بتجاوز النظم الغذائية القائمة على الحيوانات إلى أشكال أكثر استدامة لإنتاج الغذاء. وفى ظل هذه المبررات اتجه نشاط العلماء للبحث عن تقنيات بديله للحيوان لتوفير الاحتياجات من الألبان، وبذلك برز التخمير الدقيق كأحد التقنيات الواعدة في هذا الشأن، وهو مجال جديد نسبيا للتكنولوجيا الحيوية الناشئة باستزراع الخلايا الميكروبية النافعة، لتوفير مصادر بروتينية غير تقليدية يمكن أن تدعم نمو الاقتصاد الحيوي المستدام. ويستخدم التخمير الدقيق مبادئ التخمير الأساسية والتي لها تاريخ طويل وآمن في صناعة الأغذية. يطلق على هذه التقنية الجديدة في إنتاج الألبان الاصطناعية الحديثة حاليا العديد من التعريفات مثل التخمرات الدقيقة أو حليب الكائنات الحية الدقيقة أو التخمر الحيوي لإنتاج الألبان أو البان بدون أبقار. وتعتمد عمليات التخمير التقليدية على إكثار الخلايا الميكروبية (الخميرة والفطريات) في ظل الظروف اللاهوائية (الخالية من الأكسجين) لإنتاج مكونات ذات خصائص نكهة فريدة، مثل الزبادي والخبز والجبن. وفى عملية إنتاج الألبان البديلة يتم استزراع الفطر في خزانات كبيرة، مع إضافة السكر والمواد المغذية الأخرى لتحفيز نموها لإنتاج كتلة بروتينية غنية بالأحماض الأمينية الحقيقية والضرورية التي تحتويها الألبان. وتنتج الفطريات مستويات عالية من البروتين والفيتامينات والمعادن. واليوم، يُسخّر التخمير الدقيق لتخليق مركبات قد تكون باهظة الثمن ومعقدة حيث يتم الحصول عليها من مصادرها الطبيعية، ويعتمد على إعادة برمجة الميكروبات لإنتاج جزيئات محددة ومخصصة يمكن أن تنتج مكونات غذائية جديدة. ويمكن للمنتجات الجديدة عبر تقنية التخمير الدقيق تعزيز الاستهلاك من خلال تحسين المذاق أو الملمس أو الجوانب الوظيفية الأخرى، لاستيعاب تفضيلات المستهلكين واهتمامات الاستدامة. وبذلك نرى أن إنتاج الألبان الاصطناعية في المقام الأول يركز على إنتاج البروتين وتوفيره من مصادر متعددة حيث يعتبر المكون الأساسي في الألبان وبالتالي في المستقبل سيكون مصادر هذه البروتينات من النبات والكائنات الحية الدقيقة والحشرات وغيرها مما يستجد، كي يتم خلطه مع مصادر دهون وكربوهيدرات وفيتامينات وأملاح معدنية لإنتاج البان اصطناعية جديدة ذات مصادر بروتينية مختلفة ونكهات مختلفة لكنها ستكون مرغوبة للإنسان.
ويوصف الحليب الاصطناعي الناتج بأن له مذاق الحليب العادي وشكله وملمسه، وله التركيب الكيميائي نفسه، لكنه لا يتطلب تربية الحيوانات. ففي أستراليا تقوم بعض الشركات الناشئة على تطوير اللبن الاصطناعي حيث تستخدم “التخمير الدقيق” لإنتاج البروتينات الموجودة في حليب البقر ثم تستكمل باقي مكونات اللبن ليماثل اللبن الحقيقي الناتج من الحيوانات، وتستهدف الشركات المستهلكين القلقين بشأن تغير المناخ ولا سيما تأثير غاز الميثان الناتج من الأبقار. في الواقع أن هذه البروتينات تمنح الحليب العديد من خصائصه الأساسية، وتسهم في قوامه الكريمي، وأن الباحثين يضيفون المعادن والسكريات والدهون والنكهات إلى البروتين للوصول الى مواصفات تضارع المنتج النهائي.
وعلى عكس اللحوم الاصطناعية التي تكافح كي تُطابق تعقيد اللحوم الحيوانية وملمسها، يُوصف الحليب الاصطناعي بأنه يمتلك مذاق الحليب الحيواني وشكله وملمسه.
مع الزيادة السكانية سوف نحتاج لإطعام سكان العالم في المستقبل، وبالتالي نحتاج إلى إنتاج غذاء على نطاق أوسع وأكثر استدامة مما هو عليه اليوم. ولسدّ هذه الفجوة ما بين الإنتاج والاستهلاك، نحتاج إلى استخلاص مزيد من البروتين من المصادر التقليدية، إضافة إلى البروتين من المصادر الناشئة التكميلية (مثل الخميرة والفطريات والطحالب والحشرات).
ومن المتوقع أن يقلل الحليب الصناعي من الآثار البيئية المتوقعة والمخاوف مثل انبعاثات غاز الميثان، وأن يساعد على الرفق بالحيوان. وإذا تمكنت صناعة الألبان الصناعية من تحقيق هدف التكلفة هذا في جميع المجالات، فهناك -مع الأسف- احتمال عال لتعطيل صناعة الألبان المعتمدة على الماشية الطبيعية، كما يمكن أن توجه البشرية بعيدا عن الزراعة الحيوانية التقليدية نحو أنظمة غذائية مختلفة جذريا.
لكنه من المؤكد أن صناعة الحليب التقليدية لن تتلاشى في أي وقت قريب، وأن الحليب الاصطناعي ليس حلًا لكل شيء. على الرغم من المكاسب الكبيرة المحتملة لصالح البيئة ورفاهية الحيوانات بسبب هذه التقنية، فإن لها تحديات وجوانب سلبية محتملة. مثلًا، البروتينات البديلة لا تضفي الطابع المؤسسي أو تجانس الزراعة الصناعية التقليدية، مما يعني أن كبار منتجي اللبن الاصطناعي قد يستحوذون على أنظمة الألبان البديلة ضعيفة التقنية أو صغيرة النطاق. علاوة على ذلك، قد تحل هذه الصناعة مستقبلًا محل الكثير من الأشخاص في نطاق صناعة الألبان العالمي. إذا كانت تعاونيات صناعة الألبان التقليدية في أستراليا ونيوزلندا تتجه نحو الحليب الاصطناعي، فماذا تبقى لمزارعي الألبان؟
ومع اكتساب الحليب الاصطناعي منافع في السنوات القادمة، يجب الحذر من تكرار الإجحاف القائم في النظام الغذائي الحالي. وبالتالي يجب أن يدرك قطاع منتجي الألبان ومنتجات الألبان التقليدي أنه حاليًا في مرحلة مهمة من التغير المحوري نظرا للتقدم التكنولوجي، ولمواجهة التحديات المتعددة والتي منها تشريد بعض العاملين في قطاع الألبان العالمي يجب أن يعظم الفوائد المجتمعية لمشتقات الألبان الحيوانية ويقلل مساهمتها في التغير المناخي.