د.فوزي محمد ابودنيا يكتب: مستقبل الزراعة الدقيقة في مصر

6 فبراير، 2025 - بتوقيت 11:47 ص
المدير الأسبق لمعهد بحوث الإنتاج الحيواني – مركز البحوث الزراعية
الزراعة الدقيقة هي نهج زراعي يعتمد على استخدام التكنولوجيا الحديثة في مراقبة وتحليل الظروف البيئية والتربة والنباتات والحيوان بشكل دقيق. حيث يتم استخدام أجهزة للاستشعار، أو الطائرات بدون طيار، والبرمجيات المتقدمة لجمع البيانات وتحليلها في الوقت الفعلي، مما يساعد على اتخاذ قرارات زراعية أكثر دقة، مثل تحديد موعد الري أو استخدام الأسمدة. من هذا المنطلق فان الزراعة الدقيقة تساعد في تحديد التغيرات التي تطرأ على المحاصيل في الحقل أو مزارع الإنتاج الحيواني ومعرفة أسبابها، والوقوف على الحلول الممكنة لتحسين الاستدامة الاقتصادية والبيئية. حيث يمكنها الكشف عن الآفات وتقدير العائد، إضافةً إلى تحديد المُدخلات الزراعية التي تحتاجها التربة في المكان والوقت المناسبين. ويتضح من ذلك أن هذا النهج يؤدي إلى تحسين الإنتاجية الزراعية وتقليل الفاقد في الإنتاج، وتحسين جودة المنتجات الزراعية، وتقليل التأثير البيئي للزراعة، وتوفير فرص عمل جديدة في القطاع الزراعي.
هل توجد معوقات تحد من تطبيق الزراعة الدقيقة في مصر؟
بالفعل، حيث يعوق الزراعة الدقيقة في مصر عدة تحديات، منها:
التحديات التكنولوجية: نقص البنية التحتية التقنية مثل أجهزة الاستشعار الدقيقة وطائرات الدرونز، وارتفاع تكلفة التكنولوجيا الحديثة بشكل عام.
التحديات الاقتصادية: تفتت الحيازة الزراعية وارتفاع تكلفة الاستثمار في المعدات الحديثة بالنسبة للكثير من المزارعين في المناطق الريفية تقف حجر عثرة أمام تطبيق التقنيات التي تستخدم في الزراعة الدقيقة.
التحديات الاجتماعية: محدودية وعي المزارعين بمفاهيم الزراعة الدقيقة بالإضافة إلى الأمية الرقمية التي يعانيها المزارعون، وصعوبة التأقلم مع التغيرات التكنولوجية الجديدة. ونقص البنية التحتية للتكنولوجيا والاتصالات في المناطق الريفية، ونقص الموارد المالية لدى المزارعين لاستخدام التكنولوجيا، ونقص الكوادر البشرية المؤهلة في مجال الزراعة الدقيقة.
نقص التدريب: في الحقيقة فان قلة برامج التدريب على استخدام التكنولوجيا الحديثة في الزراعة، يعيق تطبيقها بشكل فعال خاصة لدى المزارع الصغير الذي يمتلك أكثر من 75% على الأقل من المساحة الزراعية والثروة الحيوانية وبشكل مفتت.
ما السبل التي يمكن اتباعها لتذليل العقبات التي تجابه تطبيق الزراعة الدقيقة؟
إن التغلب على التحديات التي تجابه تطبيق الزراعة الدقيقة يتطلب تشجيع الهيئات والمؤسسات المسؤولة عن قطاع الزراعة للمزارعين على الاستعانة بتقنيات الزراعة الدقيقة وتدريبهم على استخدامها، وعقد الندوات وورش العمل للتعريف بها وبأهميتها، وتشجيع البحث العلمي في هذا المجال. كما ينبغي ضمان وصول المزارعين في المناطق الريفية إلى الإنترنت وخدمات البيانات الكبيرة لتحسين إنتاجية المحاصيل، والحد من استخدام الأسمدة والمبيدات التي تسهم في انبعاثات غازات الدفيئة، ونفس الأمر بالنسبة للثروة الحيوانية (ماشية أو دواجن)، هذا يعنى أن تقتصر إضافة الأسمدة أو المبيدات للمناطق الفقيرة إلى تسميد وإلى مبيدات لمكافحة الآفات، بدلًا من التوزيع التقليدي لهذه المواد على كامل مساحة الأراضي المزروعة، ونفس الأمر في تكوين العلائق للحيوانات أو غيرها من الأمور التي تخص الثروة الحيوانية. ويمكن أن يتم ذلك عبر تطبيقات الهواتف النقالة وتطوير الإرشاد الزراعي. ومن المهم كذلك تصميم دورات تدريبية لطلاب الجامعات والماجستير والدكتوراة في مجال الزراعة الذكية لخلق كوادر طلابية مدربة يمكنها تطوير قطاع الزراعة الدقيقة في مصر. ويمكن تحقيق ما سبق من خلال عدة محاور نذكر منها:
التمويل والدعم الحكومي: يمكن للحكومة تقديم دعم مالي للمزارعين لتسهيل شراء المعدات التكنولوجية، وتوفير حوافز للاستثمار في الزراعة الدقيقة.
التدريب والتعليم: من الضروري تنظيم ورش عمل وبرامج تدريبية للمزارعين على كيفية استخدام التكنولوجيا الحديثة، وتوفير توجيه تقني مستمر.
الشراكات مع الشركات التكنولوجية: التعاون مع الشركات المحلية والعالمية المتخصصة في تكنولوجيا الزراعة للحصول على حلول مبتكرة وسهلة التكامل.
تحفيز البحث والتطوير: تشجيع الأبحاث الزراعية لتطوير تقنيات مبتكرة ومتوافقة مع البيئة المصرية.
هل تطبيق الزراعة الدقيقة يمكن أن يكون له تأثير واضح على مستقبل الزراعة في مصر؟
تطبيق الزراعة الدقيقة في مصر يمكن أن يعزز من الأمن الغذائي من خلال تحسين الإنتاجية الزراعية بشكل كبير، ويقلل من هدر الموارد. كما سيسهم في زيادة جودة المحاصيل وتحسين كفاءة استخدام المياه والأسمدة، ما ينعكس إيجابًا على الاقتصاد الزراعي ويضمن الاستدامة البيئية. حيث إن الاستعانة بالتقنيات التي من شأنها زيادة إنتاجية الفدان والوحدة الحيوانية سوف يرفع من دخل المزارعين ويحد من تلوث التربة ويرشد من استهلاك المياه، كما يجب أيضًا الاستعانة بتطوير منصات التنبؤ المبكر بالتغيرات المناخية ونمو المحاصيل. الى جانب ذلك فان فهم أنواع التربة المحلية وتحسين جودتها، تُمكِّن الزراعة الذكية من إدارة دقيقة لتوقيت الري والزراعة والحصاد، بالإضافة إلى مكافحة الآفات والأعشاب الضارة، كما توفر فهمًا أعمق للمتطلبات المكانية لمنطقة زراعية معينة، ونفس الأمر ينطبق على الثروة الحيوانية عند استخدام تطبيقات الزراعة الدقيقة التي تحسن الدخل وتقلل من الانبعاثات وبالتالي البصمة الكربونية والمائية لإنتاج اللحوم والألبان. إلى جانب ذلك، تزود صناع القرار بأدوات وأنظمة إنذار مبكر عالية الدقة، تعزز الاستخدام الأمثل للمياه والمواد الكيميائية والطاقة، ومواجهة حالات الظروف المغايرة والظواهر الجوية المتطرفة والآفات والأمراض المرتبطة بالمناخ، واتخاذ الإجراء المناسب في الوقت المناسب.
هل من المتوقع أن تسهم للزراعة الدقيقة في مواجهة مشكلة المياه في مصر؟
بالطبع، يمكن للزراعة الدقيقة أن تسهم في مواجهة مشكلة المياه من خلال استخدام أنظمة الري الحديثة الذكية والتي تقلل من استهلاك المياه، من خلال مراقبة الرطوبة في التربة في الوقت الفعلي، يمكن تحديد كمية المياه اللازمة بشكل دقيق، مما يساهم في تقليل هدر المياه في المناطق التي تعاني من ندرتها، مثل نهايات الترع والمصارف المائية والزراعات الصحراوية. بالإضافة الى أن استخدام أنواع المحاصيل التي تتحمل الجفاف، وتحسين كفاءة استخدام المياه في الزراعة، ويؤثر ترشيد استخدام المياه على نواتج الثروة الحيوانية أيضا. ويعتبر السبيل إلى هذا هو الاستعانة بتقنيات الزراعة الرقمية، وتطبيق تقنيات متقدمة لتتبُّع المحاصيل ومراقبتها، والماشية في المزارع. وفى هذا الصدد يمكن القول انه من الممكن الاعتماد على مجسات لاسلكية تعمل عن طريق الأقمار الاصطناعية، بما يتيح تحديد نسبة المياه التي تحتاج إليها التربة، وقياس المحتوى الرطوبة للتربة، بما يساعد على الحد من المياه المهدرة دون الإخلال بصحة المحاصيل ونموها خاصة في المناطق حديثة الاستصلاح.
ما مدى إمكانية وضع خارطة طريق تهتدي بها مصر في هذا الشأن؟
في الواقع انه من الممكن رسم خارطة طريق لتطبيق الزراعة الدقيقة بشكل فعال لتعزيز الزراعة الدقيقة، تشمل مجموعة من المحاور التي تسهم في التطوير في مجال الزراعة الدقيقة، وتعزيز الوعي بالزراعة الدقيقة بين المزارعين بالريف، ووضع استراتيجية وطنية للزراعة الدقيقة. وفى هذا الصدد يمكن التأكيد على إن مصر تحتاج إلى تبنِّي سياسات تقوم على الاستثمار في البنية التحتية الرقمية التي تخدم القطاع الزراعي، وتعزيز التعليم والتدريب في مجال التكنولوجيا الزراعية، وتبادل الخبرات والمعرفة في مجال التكنولوجيا الزراعية المتقدمة، والتعاون في مشروعات بحثية مشتركة تواجه التحديات الزراعية، مثل تدهور الأراضي، وتآكل التربة، وتراكم الملوحة، واختلال نظام الصرف. إضافةً إلى ذلك، يتعين الاستفادة من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وبيانات الأنظمة البيئية لدعم تقديم المعلومات والخدمات للمزارعين في الوقت المناسب وتطويرها. ويمكن تحديد المحاور التي يجب أن تشملها خارطة الطريق كالتالي:
تعزيز الإرشاد والتدريب: ويتم ذلك عن طريق توفير برامج تدريبية للمزارعين على تقنيات الزراعة الدقيقة.
تحفيز البحث في مجال التقنيات الدقيقة التي تخدم الزراعة: من المهم على الجانب البحثي أن يتم دعم الأبحاث المتعلقة بالزراعة الدقيقة، وتطوير حلول تتناسب مع الظروف المصرية. من جهة أخرى يجب تحفيز الاستثمار في مجال إنتاج التكنولوجية التي تخدم الزراعة الدقيقة في مصر بدلا من استيرادها من الخارج وبناء كوادر قادرة على إنتاج وتطوير تلك التكنولوجيات التي تخدم الزراعة والثروة الحيوانية.
تسهيل الوصول إلى التكنولوجيا التي تخدم الزراعة الدقيقة: يجب على مؤسسات الدولة المالية تقديم تسهيلات للمزارعين لشراء معدات وتقنيات الزراعة الدقيقة.
تشكيل شبكة لدعم توفير ونشر التقنيات التي تخدم الزراعة الدقيقة: ويمكن أن يتم ذلك عن طريق تشكيل تعاون بين الحكومة والقطاع التعاوني والخاص، الشركات التكنولوجية، والمزارعين لتبادل الخبرات والمعرفة.
إلى أي مدى يسهم التبادل المعرفي والتكنولوجي في تعزيز تقنيات الزراعة الدقيقة؟
في الحقيقة يمكن أن يسهم التبادل المعرفي والتكنولوجي بشكل كبير في تعزيز تقنيات الزراعة الدقيقة في مصر. من خلال التعاون مع دول ومؤسسات متقدمة في مجال الزراعة الدقيقة مثل الصين والهند وغيرها من الدول التي من السهل الحصول منها على تلك التكنولوجي، كما يمكن لمصر الاستفادة من الخبرات العالمية في تطبيق هذه التقنيات وتحسين بيئة العمل الزراعي في البلاد. تبادل الخبرات مع المزارعين في دول أخرى يمكن أن يوفر حلولًا عملية للتحديات المحلية. على الجانب الأخر، يجب تطوير منصات رقمية لتسهيل تبادل المعلومات والخبرات بين المزارعين والخبراء في الزراعة بالمراكز البحثية خاصة مركز البحوث الزراعية ومركز بحوث الصحراء ويمكن للجامعات أيضا، حيث يعمل هذا أيضا على تبادل الخبرات في مجال الزراعة الدقيقة بين المزارعين، فضلًا عن تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص في تطوير الزراعة الدقيقة والذكية وتطبيق تقنياتها.
ما الدور الذي يمكن أن تحققه الزراعة الدقيقة للأمن الغذائي في مصر؟
الزراعة الدقيقة من المنوط بها أن تساهم في تحقيق الأمن الغذائي في مصر على المدى الطويل، بشرط أن يتم تبني التقنيات بشكل شامل ومتكامل من قبل المزارعين. هذا يتطلب تحسين الوصول إلى التكنولوجيا، وتوفير البنية التحتية المناسبة، وزيادة الوعي لدى المزارعين حول الفوائد التي يمكن أن تقدمها الزراعة الدقيقة في تحسين الإنتاجية وتقليل الفاقد من الموارد.
وللحقيقة يمكن القول انه يمكن أن يتم ذلك عندما يتم تطبيق الزراعة الدقيقة تطبيقًا كاملًا في جميع قطاعات الزراعة بالريف، وإنشاء معاهد لتدريس تقنياتها، ودعم البحوث والابتكارات التي تزيد من جودة الطعام وكميته، وإقامة شراكات بين تلك أصحاب المصلحة بالقطاع الزراعي بمصر، وإجراء البحوث والابتكارات لتعزيز الأساليب التكنولوجية الجديدة وتطوير الأدوات المستخدمة في مجال الزراعة الدقيقة. كما يمكن القول إن الزراعة الدقيقة يمكن أن تحقق الأمن الغذائي في مصر في غضون بضع سنوات، مع اتخاذ الإجراءات اللازمة لتعزيز الزراعة الدقيقة وتوفير الدعم المالي والفني للمزارعين.
الخلاصة
الزراعة الدقيقة هي نهج واعد للمستقبل الزراعي في مصر بشقيه (إنتاج نباتي وحيواني)، حيث انها قادرة على تحسين كفاءة الإنتاج الزراعي، وتقليل الفاقد من المياه والأسمدة، وتعزيز استدامة البيئة. لكن، يتطلب الأمر تضافر الجهود بين الحكومة والمزارعين والقطاع الخاص لتذليل التحديات المتعلقة بالتكنولوجيا والاقتصاد والتعليم لتحقيق أقصى استفادة من هذه التقنيات.